8 نوفمبر 2023
جهينة العوام – كاتبة سورية
كعادته يحتفظ بالمسامير في فمه،ويتناولها واحدا بعد الآخر يدقها ليصلح حذاءً جلدياً ، كي يواصل مشواره ويقطع دروباً ومحطات ما زالت بانتظاره، أفنى (الاسكافي) سنواته بين الأحذية، تدق السنين مساميرها في قلبه فتزيده تلفاً، بينما يدق مساميره بعناية فيصلح ما أفسدته الدروب الوعرة وشقوق الانتظار.
يخبر زبائنه عن أيام طفولته، وحذائه الأول الذي كان يحمله تحت إبطه حتى لا تلوثه الأوحال، لكنه في أيام الثلج كان يجد نفسه مضطرا لانتعاله، والمجازفة بالمشي على الثلج حيث كانت تغوص قدماه حتى الركبة وأحياناً أعلى بكثير.
تغور عينا الاسكافي بينما يبتسم وترتسم تجاعيد متوازية بنهاية عينيه، وهو يتذكر قصة حدثت مع زميل كان يذهب برفقته الى المدرسة سيراً على الأقدام، ففي تلك الأيام لم يكن ثمة وسيلة نقل، وكان الفقر موزعاً بالتساوي على جميع أبناء القرية، حيث كانت طبقات الجلد المتقرنة تتراكم أسفل الأقدام الحافية، وتكثر الشقوق، يروي أبو خالد أن أفعى غرزت أنيابها بكعب قدم زميله، ولشدة قساوة جلده لم تستطع أن تخرج أنيابها، فقتلها بحجر على رأسها، وظل يجرها خلفه حتى وصلا القرية.
يتنهد تنهيدة طويلة ثم يعود ليحمد الله على كل شيء، بالشكر تدوم النعم الأقدام الحافية أفضل من أقدام مقطوعة، والأحذية البالية أحسن حالاً من ان تدوس على أشواك الزمن بقدمين عاريتين.
كان يتفاخر بنوعية الجلود الفاخرة والمتينة، وحرفية صناع تلك الأيام وأمانتهم ،الكرم ، الصدق ،الأمانة، الاتقان مفردات يرددها ويترحم عليها، حين دخل محله شاب في العشرينات من عمره، يوسفي الوجه، لكنه يبدو متشرداً أو مجنوناً، يحمل كيساً على ظهره، تبادلا نظرات حزينة ثم رفع الشاب الكيس عالياً وأفرغ محتوياته، فتطايرت منه زوارق ورقية ملونة سبحت في الجو ثم تناثرت في كل مكان.
قال الشاب الذي بدا كأنه في عالم آخر: هذه مراكبي! لكنني منذ الصباح أبحث في كل البلاد عن ماء لها كي تسير، فلم أجد ماء!
أجابه الاسكافي بهدوء خانق: ولماذا أحضرتها الى هنا؟
أجاب الشاب بصوت متقطع وهويهز رأسه :ألا يمر بك كل الناس كي تصلح لهم أحذيتهم، يصدقون الكذبة ويمضون، كان الأجدى إصلاح الدروب، لكنهم يكتفون بتركيب نصف نعل، ودق المسامير في نعش العمر ويمضون.
لذلك جلبت مراكبي اليك، كي تدق لها مساميرا وتضع لها نصف نعل، علني أجد الماء، وعلها تسير.