موسيقا “الزند” ربطة عنق على جلابية!

جمال سامي عواد – كاتب وباحث موسيقي سوري

في مسلسل شهير كمسلسل الزند، نجد أنفسنا  مضطرين بسبب شعبية العمل و شيوع موسيقاه بين الناس أولاً، و بسبب طرحه مجدداً؛ لإشكالية الدمج بين الموسيقا الشرقية و الغربية ثانياً. و هذا يضع العمل في فئة الاعمال التي تطرح نفسها كأعمال جديدة على صعيد الموسيقا الدرامية. فهل هو كذلك فعلاً؟
وما هو العنصر الجاذب فيه و الذي جعله شائعاً؟

وهل شيوعه من النوع الذي يشكل إضافة حقيقية و يستمر، أم سيكون مثل “تريندات” مواقع التواصل التي ساهمت بشكل كبير في صناعة هذا الشيوع؟

يبدو من النظرة الأولى أن أحد عناصر الجذب في هذه الشارة هي ذلك المزج بين أهم قالب من قوالب التراث الشعبي الغنائي والشعري السوري (العتابا)، مع الموسيقا الشاملة العالمية، بما هي مؤلفة من عناصر كثيرة مثل الميلودي والهارموني والإيقاع و القالب  FORM و الحركة DYNAMICS  و الطابع الصوتي أو الجرس الصوتي TIMBRE والتوزيع الضخم، و الاستخدام الهائل للمؤثرات الصوتية. ويشمل هذا العنصر شارتي البداية و النهاية اللتين تكملان بعضهما البعض في هذا العمل، و في ذلك خطوة تجديدية مهمة في الموسيقا الدرامية. و عموماً، يمكننا اتباع المنهج التقليدي في المقاربة النقدية لهذا العمل الموسيقي من خلال بحثنا عن مقولة المسلسل، ومن ثم التماس العلاقة بينها وبين الموسيقا.

المسلسل باختصار هو حكاية بطل فردي على خلفية تاريخية، تحكي لنا قصة صراعاته التي بدأت بهروبه من قريته نتيجة الظلم الذي وقع عليه وعلى عائلته و مواطنيه، ثم خوضه لحروب السلطنة العثمانية المحتلة لبلده بعد انتسابه لصفوف جيشها. وعودته بعد ذلك “ممهوراً” بأوسمة الشجاعة إلى منطقته الأصلية (حوض العاصي) ليبدأ حربه “الشخصية” الهادفة إلى نقله من فئة المظلومين إلى فئة الصعاليك و قطاع الطرق، ثم إلى فئة الظالمين ( آغا) مع تعديل في الشكل. و هذا ما تثبته لنا اللقطة النهائية المتمثلة بالصورة العائلية له بلبوس الطبقة الجديدة التي انتمى إليها بقوة “زنده”. وكل ذلك يتم بالتعاون مع جيش الاحتلال العثماني لسوريا، ومباركة سلطات ذلك الاحتلال له على كل رحلته “النضالية” ومكافأته عليها بتسهيل انتمائه إلى الطبقة التي حاربها خلال كامل حلقات المسلسل. هنا نجد تقاطعاً هائلاً بين شخصية “عاصي” وشخصية “جبل”  في مسلسل “الهيبة” و كأن الممثل تيم حسن هو الوكيل الحصري لترويج نوع من الثقافة الجديدة في هذه المنطقة من العالم.

آري جان ملحن شارة الزند مع تيم حسن

يختلف الكثيرون على هذه القراءة، و لكن الموسيقا كانت أكثر وضوحاً في القراءة، حيث ابتعدت عن التقييم الأخلاقي أو الإيديولوجي للأحداث و الشخصيات، وأعطت صورة موسيقية حيادية عن المضمون، عن طريق ثيمة واحدة واضحة المعالم، اتبعت الأسلوب الكلاسيكي في إظهار العلاقة بين السؤال و الجواب، أو بين الفعل و رد الفعل، فقسمت هذه الثيمة الأساسية إلى قسمين  الأول وهو (سؤال أو فعل) و الثاني أطول و أعقد ( الجواب أو رد الفعل). وتكررت هذه الثيمة مرتين في شارة البداية، مرة بسرعة عادية بعد موال العتابا الذي أدته المغنية “نوف” البدوية، و مرة بسرعة بطيئة، ولكن بمرافقة حركة إيقاعية أكثر نشاطاً  ووضوحاً. و قد فصل بين هذين التكرارين، مقطعاً مختلف اللحن قام بتغيير سرعة الإيقاع نحو البطيئ الثقيل بضربات قوية و مخيفة من آلة التوبا النفخية، و في هذا تعبير موسيقي عن تغير مسار البطل من مدافع فردي عن حقه، إلى أسلوب الصعلكة وقطع الطرق، بهدف التمهيد للمرحلة التالية، وهي مرحلة الحرب بإيقاع مختلف أقل سرعة و أكثر وضوحاً (بالنسبة للبطل على الأقل)، و هذا يقتضي منه تغييراً في التحالفات، وبالتالي يفرض على الموسيقا تغييراً في اللحن و الآلات و التمهيد  لإعادة الثيمة (PREVERSE). وهنا يظهر دور شارة النهاية في إكمال الجزء الناقص من الصورة، حيث تميل إلى الهدوء الحزين من خلال تبسيط أكثر للآلات المستخدمة، و استخدام صوت مختلف في أداء أبيات العتابا بطريقة أكثر انسجاما مع الموسيقا.

 

اللحن قام بتغيير سرعة الإيقاع نحو البطيئ الثقيل بضربات قوية و مخيفة من آلة التوبا النفخية، وفي هذا تعبير موسيقي عن تغير مسار البطل من مدافع فردي عن حقه، إلى أسلوب الصعلكة وقطع الطرق

في النقد الاختصاصي لهذا العمل الموسيقي، يمكننا القول أن المؤلف “آري جان سرحان” لحق بالمخرج و كاتب النص لجهة الاستعانة بنماذج ماثلة في أذهان الناس. فمن  ناحية الإخراج قام المخرج بحل المعضلات الدرامية بأحداث و أشخاص طارئين درامياً على طريقة أفلام الويسترن الأمريكية، حيث يظهر المنقذ المجهول في اللحظة الأخيرة، و ينهي الأزمة الدرامية التي وصل إليها بطل المشهد،  حتى أن المخرج نفسه ظهر بشخصه ليفعل ذلك في الحلقات الأخيرة. أما النص فقد تاه بين روبن هود و بين عروة بن الورد، و تاه في  مفازات توصيف الاحتلال العثماني و إظهار صورته الحقيقية، و لم يعتنِ بخطوط التطور الدرامي للشخصيات، و الإطار الزمني المضطرب الذي لم يزامن بين تطور الشخصيات ويضبط تطورها الزمني بنفس الدرجة ( إدريس و الباشا و أبناء أخت عاصي على سبيل المثال لا الحصر). و كذلك فعل المؤلف الموسيقي أيضاً في محاولات تقليد المزج بين الموسيقا العربية المغرقة في المحلية مع الموسيقا العالمية بمفهومها الشامل. كما نلمس نوعاً من التقليد في استخدام ما يسمى في الموسيقا بمصطلح  RIFF ( هو جملة موسيقية قصيرة و ثابتة الإيقاع تتكرر كثيراً في خلفية الموسيقا أو في أماكن مختلفة منها) حيث ذكَّرنا كثيراً جداً بما استخدمه المؤلف الإيراني رامين جوادي في مسلسل صراع العروش، الذي استخدم هذا الـRIFF بشكل مكثف وعالي التوظيف الدرامي، ولم تفلح محاولات المؤلف سرحان في تمويه ذلك، فوقع أثناء محاولاته ذلك في مطب التنويع الشديد و المكثف للـ RIFF بدون أي مبرر درامي، فالتنويع الكبير في نوتاته كان كبيراً لدرجة أضاعت فائدة استخدامه، فابتعد عن الرصانة و الدلالة الدقيقة.

ترك الملحن العتابا كبطلٍ وحيدٍ في المسمع في البداية كمقدمة، يرافقه صوت لطيف للبزق، ولكنه أضاف صوتين متناقضين بشدة في الخلفية

و إذا أخذنا العنصر الأهم لهذا العمل الموسيقي، و هو الذي ساعد كثيراً في شيوعه بين الناس، ألا و هو المزج  بين العتابا و الموسيقا الموضوعة للعمل، فإننا قد لا ننتهي من الحديث. و الحقيقة أن هذا الأسلوب ليس جديداً أبداً، فقد رأيناه عند  زياد الرحباني، و عند الفنان العراقي إلهام مدفعي و الكثير الكثير من الموسيقيين الشباب. و لكن المؤلف سرحان اقتحم هذا المجال في شارته بطريقة أكثر جرأة باختياره نوعاً يصعب دمجه  سواء من حيث القالب الشعري و الموسيقي (العتابا)، أو من حيث الصيغة المقامية، أو من حيث أسلوب الأداء. و يبدو أن اختياره لهذا النوع جاء بوحيٍ من بيئة المسلسل.

بدأت الجولة الأولى لسرحان في هذه الشارة بترك العتابا كبطل وحيد في المسمع في البداية كمقدمة، يرافقه صوت لطيف للبزق، و لكنه أضاف صوتين متناقضين بشدة في الخلفية، صوت الباص الذي يؤدي نوتة واحدة بأسلوب موحي بالخوف و القلق، و صوت رفيع حاد جداً، مما أوحى بشعور غير مريح. و قد يكون هذا مقصوداً للإيحاء بجو المسلسل العنيف المليئ بالدماء.  كما أن الإيقاع الذي يظهر تدريجياً في خلفية بيت العتابا لم يتوافق مع بداية الإيقاع الموسيقي للجملة التي تلي ذلك، و هذا أيضاً ربما يعتبر مقصوداً، و لكن لا نعرف الهدف من ذلك، و لا نجد فيه إلا قطيعة أخرى بين العتابا و الموسيقا التي تليها، أعاقت مهمة الدمج المستهدفة أساساً.

هذا فضلا عن تكرار المطربة لمقاطع “ياويل يا ويلاه” في آخر الشارة بجنوح واضح لإظهار النوتة الشرقية بعد أن سيطرت على المسمع موسيقا مقام المينور، وهذا يضيف تنافراً آخر كان يمكن تلافيه بطريقة أداء الغناء في مناطق مشتركة كما حدث في انطلاقة الغناء في كل مرة.

و لكننا في شارة النهاية، حيث تميل الموسيقا إلى الهدوء الواضح، والشاعرية باستخدام الغناء على خلفية “آربيجات” سريعة للجيتار الكلاسيكي، وهذا سبب الكثير من الراحة للأذن بذلك الأداء الرائع للمغنية مها الحموي. غير أن سرحان عاد إلى استخدام تقنية غربية في الشارة، و هي الارتفاع بطبقة الموسيقا بمقدار نصف درجة في تكرار المقطع الأول. وقد تسبب ذلك في نقل درجة استقرار مقام البيات في الغناء من درجة المي (بيات مي) إلى درجة الفا. فإنْ كانت تلك محاولة إضافية ” لتغريب العتابا”، فإن سؤالاً مهماً يخطر على البال : ما الهدف من تقطيع أوصال هذا القالب الصغير المغرق في المحلية و خصوصية الهوية؟

هل الغاية هي التجديد في الموسيقا أم أنها تخدم هدفاً درامياً؟

لا تبدو هناك أية غاية درامية في ذلك، و يبقى السبب الأرجح هو رغبة المؤلف في طرح تجربته في دمج هذين النوعين من الموسيقا. كما يبقى التساؤل عن مدى نجاح هذه التجربة مفتوحاً على مصراعيه، إلا إذا عرفنا الطريقة التي يمكن من خلالها خلق صداقة بين شخص أوروبي  و شخص بدوي، إذ لا يمكن تحقيق ذلك إلا بالتركيز على المشترك بينهما، لا في جر أحدهما إلى أن يكون نسخة من الآخر.

مها حموي مغنية شارة الزند
قد يعجبك ايضا