كرسي متنافر بين المشرق والمغرب.. مع لفتة إلى فلسطين

29 أكتوبر 2023

 

 

 

 

 

 

 

محمد البواب – كاتب وشاعر سوري

يحمل الشرق والغرب صراعاته إلى مستوياتٍ أعلى في كل قرن ويكرران سيناريوهات احتضنها التاريخ بأشكال مختلفة ومتباينة، حملاتٌ صليبية وحروب عسكرية وضغوط اقتصادية وسياسات يفرضها القوي بينما يصدّر الضعيف فيها مظلوميته.

وعلى هامش هذا الصراع الشرقي _الغربي انتشرت في المشرق العربي نفسه عدوى الخلافات بين مشرقه الذي حوى رسالات الأنبياء ورجالات دعوتهم وبين مغربه الذي حمل على عاتقه إيصالها نحو الغرب البعيد ونجدتها كلما أوشك سقوطها، ولا ريب أنّ هذه الاختلافات أخذت منحنىً بعيداً عن الصراعات والحروب إذ طفا طابع المنافسة الثقافية والفكرية عليها مع بعضٍ من المباهاة المُتحيزة لكل ما قدّمه طرف للآخر.

لم تكن حساسية المشرق والمغرب ظاهرةً على سطح التاريخ بشكل صريح حتى وصول جيوش الدولة الأموية إلى المغرب وتوغلها في شبه جزيرة إيبيرية حيث إسبانيا والبرتغال، لتعاني في بدايات حكمها لهذه البلاد من العصبية القبلية بين القيسية واليمانية إلى أن استطاع عبد الرحمن الداخل ضرب المتخاصمين ببعضهما وتوحيد البلاد تحت راية لا تلتمس للقبائل خصوصيةً. على رسلكم… فإن هذا الشّعر لي! تُعدُّ قصة الشاعر الغزال في بغداد مرجعاً يحتكم إليه المغاربة في إبراز الاستنقاص الذي تعرّضوا له من قبل المشرقيين، إذ يُحكى أنه دخل حانةً في بغداد فوجد مُرتاديها يتغنون بشعر أبي نواس ويستنقصون من شعر أهل الأندلس فقال لهم: أمنكم من يحفظ قول أبي نواس: ولمّا رأيتُ الشّربَ أكدت سماؤهُ تأبّطتُ زِقّي واحتبستُ عنائي …… إلى أن فرغ من قصيدته فتباهى الحاضرون بها وعظّموها فقال لهم: على رسلكم فإن هذا الشعر لي! فخجلوا منه وغادروا مجلسه! لكنّ عيبي أن مَطلعيَ الغربُ!

وحتى عند خمود الدولة الأموية وابتداء عهد ملوك الطوائف أطلق أكبر علماء الأندلس ابن حزم صرخته ليتحسّر على حظّه الذي ألقاه بعيداً عن المشرق الذي لا يعترف بفضل إلا من يحمل هويته فيضيعَ علمه هباءً ويأمر المعتضد بن عبّاد والي إشبيلية بأن تُهدم داره وتُحرق كُتبه في حياته فيقول: أنا الشمسُ في جوِّ العلوم منيرة لكنّ عيبي أن مَطلعي الغربُ بينما فسّر المشرقيون شعرهُ بأنّ أهل المشرق يحفظون قدرَ علمائهم ومفكريهم حتى تسطعَ شمسُهم، غافلين عن أمر الخليفة المستنجد العباسي بإحراق كتب ابن سينا وتكفيره! قائدٌ أمازيغي يموت متسولاً في حارات دمشق! يندب المغاربة مصير طارق بن زياد قائد الجيوش الإسلامية التي بلغت الأندلس بعد أن استدعاه الوليد بن عبد الملك وعزله عن قيادة الجيش وأهملَ أهل المشرق ذكره وفضله حتى ماتَ جوعاً في دمشق.

وعلى خلاف المصادر التاريخية في قبول هذه الرواية أو ردّها، يفصّلُ بعض المؤرخين أسباب عزل طارق بن زياد ويحيلونها إلى تصرفه بأموال الغنائم على هواه دون إرسالها إلى بيت المال والرجوع إلى الخليفة الأموي، رافضين دعوى المغاربة بأن العصبيّة العربية هي التي حملتَ الوليد بن عبد الملك على تجريده من منصبه وأنّه ساوى في منهج حكمه بين جميع ولاته وقادته، فيما يرفض آخرون دعوى أمازيغية طارق بن زياد ويستشهدون بنسبٍ عربي له! يحتفظ المشّرق والمغرب بتنافسه القديم الذي كثيراً ما دفعه حدّ العداء اللفظي والسياسي أحياناً، وعلى لسان العوام في دمشق يجري مَثلٌ شهير (بحاكيه من الشرق ليرد عليي من الغرب!) ليثبتَ عقدة التحام المتباعدين في المسافة والثقافة والفكر وربّما في أشدّ الكوارث الإنسانية. قد نُصّدق دعوى المغاربة حيناً أو نقتنعُ بردود المشارقة وقد يتنافسُ الطرفان ليُلهما البشرية ألواناً من الحضارات التي تخدمها.

وبينما يجلس المشرق والمغرب على كرسيٍ مُختلف ويديران ظهرهما لبعضهما، نجحت فلسطين بأن تحصد التفاتتهما في آنٍ معاً ووحدها كانت قادرةً على توحيد المتنافرَين فوهبت عجوزاً في أقصى المغرب العربي مقامَ الحزن كلما توجّع طفلٍ في أدنى غزّة! السّلام على فلسطينَ المُوحِّدَة.

قد يعجبك ايضا