1 نوفمبر 2023
ابراهيم داوود – شاعر وصحافي مصري
يلجأ الكتاب ـ عادة ـ إلي الأرشيف أو إلي جوجل، عند الكتابة عن شخص كبير المقام في الحياة العامة، رحل فجأة، غالبا ما يجد الكاتب مداخل عدة تعينه علي كتابة مقال يعدد مآثر ومنجزات هذا الشخص، توحي للآخرين بأن ما كتب يكفي لتعليق الراحل في برواز في مكان ما في ذاكرة القارئ.
ودائما يكون الهدف نبيلا وضروريا وصادقا( ومهنيا!)، خصوصا إذا كان الرجل معروفا ويملك رصيدا عند الذين قرأوا له قصصا أو روايات أو مقالات، وكان ممن يظهرون في التليفزيون، لكن عندما يتعلق الأمر بخيري شلبي، فالوضع ـ بالنسبة لكاتب هذه السطور ـ مختلف، ليس بسبب المعرفة القديمة بالشخص ومنجزه، لكن لاعتقادي بأنه سيقرأ ـ حتما ما كتبت، ولا أعرف هل سيعجبه أم لا؟ إذا أعجبه سيهاتفني مثنيا علي ما كتبت ونتفق علي موعد، وإذا حدث العكس هاتف إبراهيم أصلان أو محمود الورداني أو لطفي لبيب لإعلان استيائه!
كان عمري نصف عمره بالضبط عندما تعرفت إليه في منتصف الثمانينيات، كان يجلس في مقهي إبراهيم الغول أو “الجنيه” المواجه لمسجد السلطان قايتباي الفاتن( المرسوم علي الجنيه), يكتب ويقرأ ويلتقي أصدقاءه ويشيع البهجة والمرح والمعرفة، وآخر الليل يركب سيارته الفولكس التي تبحث عن المطبات في الشوارع، والتي يركنها في أي مكان في القاهرة ويعتبرها رجال المرور لا تحتمل مخالفة, ستجده في أماكن عدة داخل قاهرته التي يعرف دهاليزها, في الغورية عند أحمد فؤاد نجم، في حدائق القبة مع حسن الموجي ومحمد جاد الرب
وحامد الحناوي، في مقهي ريش والأوديون، في مسرح الطليعة والمسرح القومي، في الباطنية وشارع المعز، في مقاه لا تعرف كيف اكتشفها، مقاه منسية وسط تجاعيد القاهرة، لكن لها سحر خاص, الذين يعرفونه سيلتقونه لا محالة في أي وقت, لا تعرف متي ينام ومتي انجز رواياته وكيف حفظ كل هذا الشعر ومتي كتب للإذاعة كل هذه المسلسلات؟
في كل أماكنه يجلس في الصدارة وحوله من ينصتون إليه, لا تقدر أن تقول إنه كان قصيرا أو طويلا لكنك ستعرف أنه ممتلئ امتلاء لا إسراف فيه، ملامحه ريفية طيبة، بشرته بيضاء مشربة بالحمرة والخبرة والانتظار، نظارته السميكة تكمل صورته، نظارة يخلعها عندما يشرع في الكتابة أو القراءة،صوته فيه من شخصية آلة الأرغول قديم ودافئ وودود،عندما يتحدث تشعر انه سليل حكايات ألف لية وليلة أو الزير سالم وذات الهمة والظاهر بيبرس وكتب الكرامات والحيل الطفولية العظيمة، تشعر انه سليل التراث العربي الإبداعي الذي يحث علي الحياة والتأمل، سليل البداهة المصرية والقدرة الفذة علي التواصل مع البشر، سليل الحزن الشفاف الذي ترك ندوبا كثيرة علي روحه.
كان قبل أن يكتب فاتنته الوتد قد كتب عددا من الروايات المهمة مثل اللعب خارج الحلبة والشطار والسنيورة ورحلات الطرشجي الحلوجي، ولم يهتم بها النقاد،لأن الكاتب ـ كما كان يقول ـ لم يكن يساريا، لكن الوتد أجبرت الجميع علي الانتباه إلي رافد جديد مضي يشق طريقا جديدا في فن الرواية العربية بمصر، في وقت كانت الحفاوة فيه علي أشدها بأدب أمريكا اللاتينية المبهر وبالواقعية السحرية التي أحاطت به، اكتشف عشاق هذا الفن وعلي رأسهم الراحل إبراهيم منصور أهمية خيري شلبي، الذي كان وقتها في الخمسين, وكان سعيدا بالحفاوة المفاجئة, وشعر انه نجح في فرض إيقاعه, وبدأ انطلاقته الكبري الواثقة بعد ذلك, من خلال: ثلاثية الأمالي، أولنا ولد، ثانينا الكومي، ثالثنا الورق ..، وكالة عطية، موال البيات والنوم، صالح هيصة، صهاريج اللؤلؤ( عن عبده داغر)،صحراء المماليك، زهرة الخشخاش، نسف الأدمغة،اسباب للكي بالنار، بغلة العرش، موت عباءة، لحس العتب، منامات عم أحمد السماك، والأخيرة مجموعة أحلام للعم أحمد حماد السماك والذي اعتبره العم خيري ملهما وصديقا له.
انحازت أعماله للاشواق المكبوتة عند المصريين كتبها بلغة حريفة مثل شخصياتها، أعمال ارخت للعذابات الصغيرة التي إذا وضعتها جنب بعضها ستتعرف علي مصر التي لا تظهر في التليفزيون أو الصحف، لقد سعدت بقراءة أعمال كثيرة وهي ساخنة وكنت انتظر اليوم التالي لاتابع ما انجزه فيها. كان خطه جميلا برغم انه لا علاقة له بالخطوط المتعارف عليها،هو أقرب إلي خطوط لغة قديمة مقدسة،حروف أقرب إلي الرسم، لكنه خط مبين وواضح.
كنت أشفق علي مصير شخصياته، برغم الحنو والرقة التي يرسم بها هذه الشخصيات، نجح في جعل الحكي سلوكا وليس صنعة، وكسر الحدود بين الخيال والواقع، بين الشفاهة والتدوين، بين التاريخ الشخصي والعام، مرات تشعر أنك أمام شاعر ربابة يحكي لك سيرة ومرات أمام جواهرجي ماهر يحول الخامة المتربة إلى عقد مبهر، ومرات أمام حكيم مصري قديم يشير ولايفصح، تجربته الصعبة في الحياة حولها إلي أسطورة حقيقية، واستغل معاناته أفضل استغلال، فقدم للأدب العربي مائدة عامرة بكل صنوف الحكي المصري، تجلت خبراته وثقافته أيضا في فن البورتوريه، الذي ارتقى به إلي منزلة الأدب، بدون اللجوء إلي الأرشيف، هو يكتب الناس بخبرته في الناس، هو يرى نفسه فيهم، يختلف معهم ويغضب منهم، وسرعان ما يرق هو من أقاربك الذين إذا اختلفت معهم يكون الخلاف حادا وعندما يختفي غبار الخلاف تظهر ابتسامته العريضة التلقائية الآسرة لتعيد كل شيء إلي مكانه، له أيضا كتابات من الصعب تصنيفها مثل كتاب بطن البقرة، الذي يحكي سيرة أربعة أحياء قاهرية، احتشد لها بالمعرفة وبتجربته الشخصية فيها وبمعرفة عمارتها، فجاء الكتاب درسا في الكتابة وفي المعرفة في الوقت نفسه.
ناهيك عن كتاباته في المسرح والتاريخ ومقالاته، أكثر من سبعين كتابا تشير إلي كاتب كبير مختلف.. أما عمي خيري شلبي الذي أسعدني زماني بالمشي والسهر والغناء معه كل هذه السنوات،فمن الصعب أن أصدق ـ بسهولة ـ أنه رحل