طارق تميم .. صدقٌ يكاد لا يصدّق

14 إبريل 2023

وسام كنعان- دمشق

«إن الشيء الأكثر أهمية للممثل هو الصدق. إن استطاع أن يتظاهر بذلك، أصبح راسخاً في مجاله» بهذه الصيغة يقّدم الممثل الأمريكي المخضرم والحائز على جائزة أوسكار جورج بيرنز (1896/1996) الوصفة السحرية القادرة على الإقناع بفن التمثيل، بينما لا يزال الخلاف مشتعلاً بين شيوخ هذه المهنة، حول الطريقة الأمثل التي يجب  أن  يجسدوا فيها، إذ لا يزال صدى الحديث الذي دار بين لورنس أوليفيه وداستن هوفمان يتردد حتى اليوم، رغم أنه جرى قبل قرابة 47 عاماً في كواليس تصوير فيلم «رجل الماراثون» (لجون شليسنغر 1976) إذ قرر هوفمان ألا ينام لمدة ثلاثة أيّام، كي يتمكّن من تقمّص الشخصية التي تعاني من قلّة النوم التي كان يؤدّيها، فقال له زميله البريطاني: «يا لشقائك! لم لا تحاول التمثيل وحسب؟!»

بين هذا وذاك، يظلّ الهدف أن يصل التجسيد لمطرح التلّبس المطلق، بمعنى أن يرتدي الممثل لبوس الشخصية لدرجة لا يمكن بعدها الفصل بينهما! هذا بالضبط ما يحققه الممثل اللبناني طارق تميم في شخصية جميل الصحافي اليساري العاطل عن العمل بمسلسل «النار بالنار» (كتابة رامي كوسا وإخراج محمد عبد العزيز) الممثل الذي أمضى مشوار حياته  في التجريب، والبحث، والاختبارات المتعاقبة، والتراكم المستمر، يبدو كأنه تربّع على عرش الحكمة الأدائية، والنضج التجسيدي في هذا الدور. متجاوزاً النجوم المكرّسين الذين تفسح لهم أدوار البطولة مساحات وافية.

تحرر طارق في هذه الشخصية بشكل تام من ثقل الفهم الأكاديمي للتمثيل، ومن مبالغة الصيغة المسرحية المطلوبة على الخشبة، ومن أية إضافات منهجية ربما تختلف مع اللغة الآنية لفن التلفزيون. هكذا، أطّل بحياتية مدهشة، وبراعة حادة، وكأنه ينتصر للأداء العفوي المعاصر. كأنه بهذه النوعية من الأداء يعيد تطبيق نظرية الممثل والمخرج والمدرّب الاسكتلندي لورانس روديك، وينتبه بحرص شديد للوعي الجسدي، والفهم الدقيق لفن الحركة، والابتعاد عن أيّ إفتعال أو تصنّع. والإفراط في العفوية لدرجة الامتناع عن التمثيل، إلّا إذا تطلّب المشهد ذلك. بعدما فَهِم تميم الشخصية وأمعن في تقاطعاتها وهزائمها، بنى لها تاريخاً صريحاً، ثم هضمها من الداخل، قبل أن يتفرّغ لهيأتها البرّانية، ويلعب طيلة أحداث المسلسل ومدّته الزمنية بثياب هي ذاتها، وهو في كلّ مشهد موغل بالعفوية والصدق يقول مراراً وتكراراً أمام مشاهديه: «قبل أن أبدأ بتجسيد هذا الدور، سألت نفسي جيداً: لماذا أنوي تجسيده، وكيف أتقدم في سلوكيات هذه الشخصية، وما هي نظرتها للحياة، وكيف تنظّم يومياتها، وما هي إمكانياتها ومواهبها. وخلصت لمقولة تختصرها الشخصية، حتى ولو لم تكن موجودة على الورق أو دارجة على لسانها، فإنني قدّمتها بمنطقها السلوكي وفعلها الأدائي!»

حالة الصحفي المنهزم، وعلاقته بالمحيط، والتواتر المعقّد في علاقته مع زوجته (تؤديه ببراعة ساشا دحدوح)  وانحدارها وانكساراتها التي تجسّد حال اليسار في المنطقة العربية، والبيع المتلاحق لأغراض البيت بما فيها المكتبة الثريّة، ومحاولاته البائسة لاسترجاعها، كذلك خوفه من المسؤولية وإنجاب طفل، وهو يدّعي حمل الفكر الثوري والرغبة بتغيير العالم، ومن ثم رفضه العنيف للعنصرية اللبنانية ضد السوريين، كلّها مفردات تمّكن الممثل اللبناني من القبض عليها بإحكام مفرط، لكّن ذروة ما وصل إليه كان في أحد المشاهد بشراكة النجم جورج خبّاز التي يحّلق فيها تميم بترف الصدق، وغنى العفوية. يضحك مع خبّاز من كلّ قلبه. كلّه دفعة واحدة يضحك. من شغاف قلبه حتى مسامات جلده. هنا بالضبط نشعر بالشخصية في كلّ معطياتها ومن كامل جوانبها، ليس عن عبث، بل لأن الممثل هنا بالغ في صدقه، فلم يعد  قادراً الفصل بين هويته وهوية الشخصية التي يقدمها، لذا فإنه من المنطقي أن يصدّق نفسه فيصبح من السهل تصديقه من قبل الجمهور!

 

قد يعجبك ايضا