27 أغسطس 2023
حسان الحديثي – كاتب وناقد من العراق
زرت غالب الدول العربية واقمت في بعضها وأطلت المقام لكني لم ازر اليمن.
في صيف 2002 انطلقت بسيارتي من ـمارة دبي سرت جنوباً، لـلف وثلاثمائة كيلومتر عابراً حدود الامارات وماراً بمدن عُمان من أقصاها إلى أقصاها بلا توقف الا لطعام او تزود بوقود، حتى وصلت صلالة المتاخمة لأرض اليمن، ثم اجتزتها باتجاه الحدود فأوقفني حرسُ الحدود عند آخر نقطة عمانية ولم يسمحوا لي بالعبور لأني لا ـحمل تأشيرة دخول الى اليمن، واليمن -يومها- لا تطالب العراقي بِسمةِ دخول كما قيل لي، فخاب جناحي وطُويَ بساطي من أن يحملاني ويطيرا بي إلى عدن وصنعاء، منطق الحكمة وموطن الصفاء، ومنطلق اللغة ومعين الشعر ومنهل الشعراء…
دعوني أعد بكم الى الوراء؛ قليلاً او ربما كثيراً، الى ما قبل عمر التعليل والتحليل، فقد اشتعل مصباح اليمن في ذاكرتي أول مرة حين قرأت مطلع نونية الجواهري:
مِنْ مَوْطِنِ الثّلْجِ زَحّافاً إلى عَدَنِ
خَبّتْ بِيَ الرَّيحُ في مُهْرٍ بِلا رَسَنِ
قرأت هذه القصيدة قبل بلوغي عمرَ فهم المعاني وسنَّ ادراك الكنايات، لم اقف يومها على اي موطن للثلج يقصد، كما لم افهم لماذا قال “زحّافاً” في الصدر، مع فهمي لقوله: خَبّتْ بِيَ الرَّيحُ، في عجز البيت، فهي كناية واضحة عن السفر جوا بالطائرة، وكنت اسأل نفسي: كيف وافق بين الزحف هنا وخبوب الريح وهي تحمله الى عدن هناك؟
ولكنه الجواهري الذي يُحسِنُ سحر أسماعنا بعظيم ديباجته، وتمكُنِه من أداته وآلتِه، فيَعمي البصر عن رؤية بسيط القول وتُحجب البصيرة عن باهت اللفظ، غير أني لم استطع تجاوز قوله :
وَنَاقِلُ التّمْرِ عَنْ جَهْلٍ إلَى هَجَرٍ
كَنَاقِلِ الشِّعْرِ مَوْشِيّاً إلَى اليَمَنِ
فوقفت عنده واطلت الوقوف؛ في عجز البيت كان المعنى واضحاً فلا يليق ولا يجدر بالعاقل ان يمتهن السقاية في موطن السقاة، وهَجَر هي أرض الاحساء اليوم وهي أرض نخل وتمر، ومع ما يراود الفكر من ابتذال معنى شطر البيت الاول و بساطته، الا انه كان تقديماً ذكياً لمعنى شطره الثاني، وهذا امر دأب عليه الاذكياء من الشعراء لبلوغ درجة الفجاءة والدهشة عند المتلقي.
كبرنا واشتبكنا مع الحياة فطاردناها وطاردتنا عبر الأعمار وبين المدن حتى استقر بي الحال يوماً في عاصمة بوهيميا؛ براغ، فتوضحت لي أمور في الفهم وتبينت لي تفاصيل في الدلالة فعدت الى القصيدة؛ إلى نظمه الساحر واسترساله الآسر في قوله:
مِنْ مَوْطِنِ الثّلْجِ مِنْ خُضْرِ العُيُونِ بِهِ
لِمَوْطِنِ السُّمْرِ مِنْ سَمْرَاءِ ذي يَزَنِ
هذا هو موطن الثلج الذي يقصده، إنها أرض التشيك وهذي خضر العيون التي يريدها إنه العِرق السلوفاكي الفتّاك بجماله وفتنة شبابه، لكن جمال شقراء هذه الاأض كثلجها يذوب ويذوي بسرعة، يا لك من متلطف بالقول على القلوب يا أبا فرات، حتى تاخذَها -برضاها- طائعةً منقادةً الى حيث تريد، من موطن الثلج الى سمراء ذي يزن؛ من مؤقت الجمال الى دائمه ومن قلق السحر الى نابته وثابته.
يندُّ فمي؛ أي تشذُّ وتنفرُ منه الكلمات؛ أي الشعر، ولكن ليس أي شعر، إنه الشعر الذي يودي بحياة صاحبه ويسلمه للموت، لاجل ذلك قال:
مَا أرْخَصَ المَوْتَ عِنْدي إذْ يَنِدُّ فَمِي
بِمَا تَحُوكُ بَنَاتُ الشّعْرِ مِنْ كَفَنِي
وَمَا أَرَقَّ اللّيالِي وَهْيَ تُسْلِمُنِي
يَوْمَ القِرَاعِ لِظَهْرِ المَرْكَبِ الخَشِنِ
وليس ما تقدم الا تقديماً اخر ليقول:
حَسِبتني وعُقابُ الجَوِّ يَصْعَدُ بِي
إلَى السّمَاواتِ ، مَحْمولاً إلَى وَطَنِي
هذا بالضبط ما أراد ان يقوله: مَحمولاً إلَى وَطَنِي…
اليوم عدت الى القصيدة فقرأتها من جديد بيتاً بيتاً، وتلمست مفاصلها مِفصلاً مِفصلاً، حتى احسست بروحها وهي تتوهجُ بي توهجَّ النار في الكوانين، وتصّاعدُ في جسدي معانيها تصاعد الدماء في الشرايين، فانثنيت كالثمِل اتمتم قائلا: للعربي أصلان اصله واليمن ، وأرضان: بلاده واليمن
.