13 يوليو 2023
الناقد الدكتور – محمد زيدان
يكتب : بلاغة السياق الرمزي عن محمود قرني
تؤثر المساحة المكانية والزمنية على الراوي في القصيدة مما يجعله أكثر قربا من التشكيل بالرمز في إطار الحكاية وعناصرها السردية المختلفة، سواء كانت هذه الحكاية إشارية الدلالة، أم كانت تراثية أم كانت واقعية، حيث يتخذ من فضائها وذواتها ومفردات الدلالة مدخلا لبناء النص، ومن هنا تأتي تحولات الراوي مرتبطة بمجموعة من الأدوات الأسلوبية التي تفتح أمامه آفاقا تعويضية، وتقوم بدورها بعيدا عن التداعيات والصور الجزئية. وفي النصوص الجديدة يجعل الراوي من الرمز الحكائي بديلا عن الصورة الشعرية التقليدية، وهذا ما يتجلى في نصوص الشاعر محمود قرني “طرق طيبة للحفاة – قصائد الغرقى” وهي حافلة بالسرود الشعرية التي تقدم بلاغتها من مفردات سياقية وحكائية جديدة يعتمد الراوي فيها على المزج بين منظورين مختلفين:
منظور السارد: ويمثله ضمير الأنا الشاعرة ويخلق لنفسه سياقا واقعيا وتاريخيا ينسجم مع الرؤية الحكائية التي يقدمها.
منظور الراوي: وهو صوته الثاني في النص، وغالبا ما يأتي في سياق متحد مع السارد، ويقدم عناصر ومفردات حكائية رمزية تمتاح من الواقع والتراث دلالاتها المختلفة.
يظهر الراوي باعتباره فاعلا للنص – في مقابل السارد الصوت الشعري الأول وهذا يجعل من الحكاية تشكيلا متعدد المستويات على مستوى الاستخدام الرمزي وعلى مستوى بناء الحكاية التي تمتد عناصرها لتشكيل محاور الدلالة الرئيسية، فالشاعر يعي جيدا الأسإلىب التي يتعامل معها منطلقا من المداخل الحكائية إذ يتخذ من الذوات مناطق جذب للمعنى تتضام فيها الصور الجزئية المشكلة له، دون ان يغفل ما يمكن أن نعده مفاتيح نصية، تبدأ باستخدام المجازات المتجاورة مع الرموز التي تمثل الواقع. يقول الشاعر في أسئلة نهائية أو فصل في الجحيم من ديوانه “طرق طيبة للحفاة”
ماذا فعلت بحياتك يا عبد الله.
هكذا سوف يخرق الضوء المشتعل
قاعة الإله
وعندما يندس عبد الله في معطفه
ويكون أكبر من الأفهام
يمضي الروث الأخضر أمام السماء
الغارقة في النعاس
التثاؤبات فقط
يمكن أن تنبه الحراس إلى أسلحتهم
وحاملاتهم الشرسة
ماذا فعلت بحياتك يا عبد الله؟
أنهار من اللبن والعسل
لم أر الدخان يتطاير بهذه الفخامة من قبل
فخلال أعوامي التي تبدو قليلة
كنت أضع الحائط خلفي وأبسمل مكفهرا
أخرب – منخطفا – فريستي
ماذا فعلت بحياتك يا عبد الله
كانت الأشواق تحتضن ظهر امرأة ملفوفة
ووحيدة وكانت تقول لي أنني كنزها
الأسطوري وقناعها الأخير ( صـ 29 )
الراوي يبدأ بالإشارة إلى الزمن ثم يتحول إلى استخدام الرمز بديلا عما يمكن أن تقدمه الحكاية الكاملة للقصيدة فيستحوذ الرمز على مساحة بشكل لافت ويحتاج إلى تأويل حتى يمكن ربط أجزائه المتشابكة، والتي تعبر عن صور مواجهة للبداية الحكائية، والتي تبدو خإلىة من الفعل الحكائي العام الذي يمكن أن نرد إلىه عناصر السرد؛ فالشاعر يستعيض عن هذا الفعل بالأفعال الكلامية المضافة إلى الذات، وينتقل من صورة رمزية إلى أخري، وكأنه يقلب أحوال عبد الله، عندما يبدأ مع جولة الضوء الأخضر وهو يخرق قائمة الإله، فيندس في معطفه، وحتى الحاملات الشرسة فالدلالة هنا في موضع مفارقه بين الضعف البادي في عبد الله، والحاملات الشرسة التي أبادت حضارات بأكملها أمام أعيننا، وهكذا يأخذنا الراوي إلى قلب الواقع من خلال الإشارات الحكائية الرمزية، ثم يدسنا بين طيات هذه الذات وانهار اللبن والعسل إلى امرأته الوحيدة. إنها صورة سردية تبدو في ظاهرها متناثرة، ولكنها دلاليا تنحو إلى الانسجام بين رؤية الذات من خلال رؤية مفردات الواقع والرمز الممزوج به وهذا يتبدى في ثلاثة محاور رئيسية تشكل دلالة النص الكلية.
الاعتماد على صنع مسافة بين ذات الراوي والمروي عنه حتى يتمكن من حشد الرموز التي تنسجم مع مفردات الحكاية الرمزية.
السرد في النص يمزج بين صور مجازية وواقعية وذاتية تعكس تقلبات الراوي وبصيرته التي تعمل من أجل الوصول إلى مواقف قيمية تنبع من قلب الفعل السردي العام.
عناصر الواقع تشكل وجها آخر من أوجه المفارقات التي تؤسس لسياق نفسي ظاهري داخل الذات “عبد الله” والسارد في مقابل السياق العام الذي يتشكل بمفردات الواقع. وفي الوقت نفسه تتداخل رؤية الزمان مع رؤية السارد المندمجة في السياقات الجزئية التي يقدمها، وهي صور جزئية تعتمد على استنطاق الذات والواقع في آن واحد.
الشاعر محمود قرني لا يكتفي بتحويل الرمز إلى سياقات إنسانية واجتماعية وسياسية وإنما يقدم صورة مقابلة للسرد بالرمز، وهي التي بدأ فيها باستغلال العناصر السردية داخل الدلالة، سواء كانت تتصل بالذات أو المكان ليحولها إلى سياق ينسجم ومفردات الرمز، هذه الصورة تبدأ من الواقع مكتفيا أحيانا بالسرد الوصفي باستخدام ضمير المتكلم الذي يومي إلى الوجود المباشر للسارد، ثم يحول العناصر المكونة للصورة من مجرد أطر واقعية إلى رموز يتم فيها تكثيف دلالات متعددة كلها ترتبط ارتباطا وثيقا بذاكرة السارد، وتتحول أيضا الأسماء والأماكن والأحداث إلى سياقات سردية لا تشكل واقعا جديدا، بل تقدم الواقع الذي يعلو أحيانا على خيال السارد بما يضم من رؤى وبصائر يخلط فيها السارد بين ذاته التي تمثل هي الأخرى مركزا دلاليا وبين بقية الذوات، وهي أدوات ورموز مكملة للصورة. يتجلى هذا الطرح بشكل لافت في مجموعته “قصائد الغرقى” إذ يعتمد الشاعر على المزج بين الصورة المجازية والرمز وبين الواقع كما يظهر من خلال بصيرة السارد، ففيها يخرج المعني من أدائه الموضوعي ليتحول هو الآخر إلى صورة للرمز، أو صورة مجازية تنسجم مع صورة الواقع الذي يتحول إلى رمز جزئي أحيانا، ورمز كلي في الكثير من النصوص، وتشي بذلك العناوين التي اختارها:
جدران بحدود السماء – الله لا يسكن في بولاق – قناة السويس.
جدران بحدود السماء (عنوان رئيسي) يضم أبناء الله – نزهة خلوية مع الموت – منديل الزعيم – الله لا يسكن في بولاق – بوصلة العارف بالله، وهي محاولة لصنع إطار عام للنصوص أو تخليق دلالات منسجمة مع التفاصيل الكثيرة التي تضمها المجموعة “قصائد الغرقى” وهو عنوان يقدم دلالته مباشرة إلى التفاصيل إذ تقوم بعملية التأويل في مواضع متعددة، ففي نص “منديل الزعيم” تجذب الذوات دلالة الأشياء جذبا شديدا ويتحول السرد من الرمز الذي غالبا ما يحتمي بقيمة موضوعية يمكن بتأويل الوصول إليها إلى سرد حكائي تقف فيه العناصر السردية ممثلة للأيديولوجيا أكثر مما تمثل نفسها، فالسارد يقدم رؤيتين متزامنتين.
الأولى: الرؤية المنفصلة عن المنظور صانعا المسافة بين مداه وأمداء الذوات والعناصر الأخرى.
الثانية: الرؤية الفاعلة في الحكاية، لأنه جزء منها.
وفي كلا الحالتين لا يهتم ببقية العناصر المكونة للحكاية، بقدر ما يركز على الأبعاد الذاتية التي تدعم وجهة نظر السارد، ويتحول النص إلى صورة ممتدة مكملة بعضها البعض. يقول الشاعر:
مات أبي مغمورا لأجلي
بعد أن رآني في أحلامه
مجوسيا مهيضا
يخب يوما في الدمقس
وأياما في الأوحال
رآني بقلب رصاصة في الأحراش
وبقلب زنبقة في الأراضي. صـ 27
فالتأسيس الذي يقدمه السارد يسهم في صنع سياق النص، حتى يستطيع بسط مفردات هذا السياق وتحويل أجزائه إلى أحداث يحمل كل حدث صورة سردية عن الذوات وما يحيط بها من مفارقات ومقابلات حكائية.
وها انا أكبر مع سعف الحيل
وجروح الأشقياء
أستمع جيدا
لدبيب الثورات
أكره الفلاحين
الذين خانوا ” عرابي ”
و “الأعراب الذين قالوا آمنا ”
اسكن على مقربة
من الشارع ” ناصر الثورة ”
ألوح لساكنين بمنديل الزعيم
وأقسم لهم أن أبوينا كان ساعي يريد
وطالما حملا أطنانا من الشكايات
إلى الوالي صــ 32
الإشارات الحكائية تقدم رؤية ثالثة تنسجم مع الرؤيتين السابقتين وبقدر بعدها عن ذات السارد بقدر قربها من عناصر الحكاية التي تصنع السياق المصاحب لها، وفي الوقت نفسه تقدم قربها من عناصر الحكاية التي تصنع السياق المصاحب لها وفي الوقت نفسه تقدم أسبابا منطقية لتحويل الحكاية إلى رؤي أيديولوجية يمكن بها استنطاق الواقع، لأن هذا الاستنطاق من هو الأولي في الدلال.
وفي نص ” قناة السويس” يتخلى عن هذه السردية ليقدم مجموعة من الإشارات الحكائية التي تمثل السياق المعاصر وتصنع المقابلة زمنيا بينه وبين منظور السارد الذي يمثله الشاعر تمثيلا متطابقا فهو يعتمد على مجموعة من الدلالات المتقاربة المتباعدة في آن ويستقطب لها أسباب وجودها:
دلالة المكان – يمثله العنوان ” قناة السويس” وبقية الإشارات
دلالة القيمة: يمثلها السياق المصاحب لإنشاء القناة أيام مصر الخديوية والقناة وما تمثله الآن لمصر. وتكمن فيها الدلالات التي تتصل بالزمان
الدلالة الذاتية. وهي دلالة شبه غائبة ولكنها هي أساس في رصد الصورة السردية.
يقول الشاعر:
أيتها الفتاة
يا مربية المدرعات والقاذفات والشهداء
تحدث إلىنا
نحن العشاق القدامى
تعإلى نؤلف أوبرا مفتوحة الأبواب
لا يسرقها الجبناء والقساة
جباة الضرائب والبراطيل (صـ 65 )
وبقدر ما يستنطق الشاعر محمود قرني عناصر تراثية وواقعية ممثلة في الكثير من الإشارات بقدر ما يقدم للنص أبعادا سياقية منسجمة دلإلىا في النصوص تحكمه قيم وأيدولوجيات متزامنة مع ما يقدمه الواقع من صور ورموز ومجازات تمثل الحكاية، أو تتخلي عنها لتقدم الدلالة بشكل مباشر معتمدة على مفردات وعناصر لصور كلية عن هذا الواقع يقول الشاعر في نص ” زيادة مطردة في الوزن ” ممثلا لسرد القيمية ومحولا ناتج دلالة إلى إشارات الحكائية إلى سياقات منفصلة في الظاهر ولكنها مرتبطة ارتباطا قويا بالمنظور الأيديولوجي العام الذي يقدمه السارد، فهو يطرح رؤيته عن الواقع ويضمر إلىات تحوله في مقابل التركيز على عناصر من الحكاية تؤسس لهذا الرفض الكامن في طيات النصوص:
كانت الحياة تبدأ من هنا
قبل أن ينعق فينا الغراب
ليعلمنا كيف نخفي جثامين الأشقاء
ثم ننصرف إلى الشئون نفسها
ومع ذلك سوف نطالع ببالغ الدهشة
أخبارنا في صحف الصباح
ممثل كوميدي من أبناء الشعب
يبني أربعة حوائط حول عائلته
حتى لا يعرف الفقر طريقا إلىها
بنت لازالت تعتقد بمسألة الشرف
هربا من الفضيحة صـ 69
الشاعر يبحث عن الحياة الحقيقية وليست اللعبة التي نمارسها جميعا وراء أوجه ملوثه بمساحيق الرموز والأحداث والتمثيليات التي تقدم في الطرقات يوميا، إن إدانة الواقع والرغبة في استنطاقه هو لب الدلالة التي تتفجر بها ذاكرة الراوي محاولا المزج بين أدوات متعددة تبدأ بالذات وتصاحب الرمز وتنطق الحكاية وتؤول الأحداث .