“بترا” وتاريخ السلالة – مالك عثامنة

ابنتي بترا عمرها عشر سنوات.

طلبت مني مؤخراً أن أهديها في عيد ميلادها هديةً مميزةً ومحددةً مسبقاً: فحص الجينات الوراثية لتعرف أصولها وجذورها العرقية! طلب مدهش لصبية في العاشرة، والمدهش أكثر هو ما يمكن أن نعرفه بدون فحص مخبري عن هويات بترا المتعددة.

أنا شخصيا، أصولي من ناحية والدي حورانية من شمال الأردن، والدتي شيشانية من شمال جبال القوقاز. زوجتي ليلى خانم – والدة بترا خانم- من حلب، كابراً عن كابر كما يقولون، والدتها – أي حماتي غابرييلا حماها الله ورعاها- من عائلات بودابست المجرية الارستقراطية.

بترا سليلة ذلك كله، ولدت في مدينة “غنت” الفلامنكية في بلجيكا، تلك المدينة ذات الجذور الثقافية الهولندية وبترا نفسها تتحدث الهولندية بطلاقة تتفوق فيها على أقرانها من ذوي الأصول الهولندية، كما تتحدث المجرية بذات الطلاقة والعربية كذلك وطبعا الإنجليزية.

كثيرا ما فكرت في “متاهة الأعراق” تلك التي حظيت بها – أو تورطت- ابنتي الوحيدة، ولأنني كاتب – بالوظيفة- وقاريء محترف للأدب فإن الخيال يجنح لمسافات بعيدة في التاريخ متخيلا تلك الأصول التي تحملها بترا عبر آلة زمن أركبها في حلم يقظة نهاري.

فلنتشارك تلك الفانتازيا المتخيلة ومن واقع ما تيسر لنا معرفته من حياة جدود والدي بترا.. أنا وزوجتي المصون. سالم “الحشم” فلاح حوراني في قرية الصريح، كان موجودا قبل نشوء الدولة الأردنية، وعاصر “العصملّي” الذي كان يفرض عليه أتاوة مثل غيره من الفلاحين، كان أبيض البشرة مليح الوجه يحب الراحة في حياته، وتزوج من “عيشة الإحمد” بنت الشيخ أحمد العجلوني الذي كان يدرّس اللغة والقرآن في الكتاتيب بين جبل عجلون حتى سمخ على بحيرة طبريا غرباّ، مات “الحشم” وهو على قناعة تامة أن الأمريكان “فشارين” ولم يصلوا القمر، بذات قناعته أن مذيع نشرة أخبار الثامنة على التلفزيون الأردني يستطيع رؤية المشاهدين من خلف زجاج الشاشة!

عيشة الإحمد، كانت السيدة التي حملت البيت كله بكل ما فيه من عيال أنجبتهم، كانت حكيمة وموسوعة أمثال تمشي على قدمين، تستحضر تلك الأمثال أمام كل منعطف واقعة يومية جديدة في الحياة، أنجبت عيالا وهي في الحصاد، كما أسقط رحمها عيالا لم تقبلهم الحياة فدفنتهم واستمرت بالحصاد.

أحياد، جدي القوقازي المهاجر من قريته “آتشن” في بلاد الوايناخ التي سماها الروس المحتلون “الشيشان”، ترك قريته برفقة أسرته أوائل القرن العشرين، في مطلعه بالضبط، وترك خلفه في القرية القوقازية الوادعة حبيبته “منو” التي تركت في جيب سترته منديلا مسحت فيه دموعها يوم الرحيل، أحياد في نهاية سبعينيات القرن العشرين أخرج من تحت سريره في مدينة الزرقاء الأردنية حيث هاجر واستقر، صندوقاً صدفياً وعرض المنديل على أولاده ليخبرهم أن الحب لا يموت. كانت “بيتمت” زوجته التي تزوجها في المهجر كذلك من عائلة قوقازية مهاجرة، عاشت حياتها بصمت وإيمان يجعلها تكتسب بجدارة صفة الصوفيين الأولياء الذين يحبهم الله بدون شروط.

ليلى، أم بترا التي ولدت بدورها في بودابست، جدها أبوجلال كان أرستقراطيا حلبياً يلبس الطقم ولا يتخلى عن أناقة مفرطة لازمته طوال حياته، كان يتحدث التركية بطلاقة وهي اللغة التي جعلته يتواصل مع رفيقة حياته عزيزة خانم “أم جلال” وهي مواليد إسطنبول “حين كانت رمزا للصالونات في العالم” وخريجة معهد لغة فرنسية، وكانت تقضي نصل سنتها في إسطنبول وتعود بالنصف الثاني إلى حلب وهي محملة بأطايب ما تجود به أسواق المدينة الأجمل في العالم.

ابنهم “عز الدين” كان تاجراً للملابس والأقمشة، وكانت له محلات عند الطليان الذين أتقن لغتهم، وفي زيارة إلى بودابست تعرف إلى غابرييلا في مقهى وتزوجها على الرغم من اعتراض والدها الجنرال “غولا” الذي خدم في الجيش الهنغاري وشارك في الحرب العالمية الثانية ضابطا وتم أسره في سجون ستالين ردحا من الزمن.

غولا، كان قاسيا بحكم عسكريته، على عكس زوجته “مارغريت” الكاثوليكية الوادعة التي كانت تؤمن حرفيا بإدارة الخد الأيسر لمن يصفع الخد الأيمن، طمعا في ملكوت الرب الذي يحب الجميع.

لنا أن نتخيل بإزاحة فانتازية أكثر تطرفاً لو جمعنا كل هؤلاء في غرفة واحدة بدايات القرن العشرين، ووجدنا طريقة نقنعهم فيها “وقتها” أن طفلة ما في الألفية الثانية ستجمعهم جميعا في بوتقة جينات واحدة وتحمل منهم “جميعا” صفات وراثية.

كيف يمكن أن تقنع أسير حرب عالمية في معتقلات ستالين الباردة أن له حفيدة في زمن قادم أحد جدودها أيضا نفاه الروس وشعب كامل من بعد هجرته نفاه ستالين إلى سيبيريا؟

كيف يمكن أن تجمع بين أبوجلال الأرستقراطي من حلب والمقيم في إسطنبول مع سالم الحشم الذي يدفع الأتاوة للعصملي صاغراً فتذهب خيراته لينعم بها أفندية الآستانة؟ أو بين عيشة الإحمد الفلاحة الراضية المرضية وعزيزة خانم سيدة الصالونات التي تتحدث الفرنسية؟ الجمع بين “بيتمت” و “ومارغريت” كان سهلا عندي، كان الله دوما حاضرا في قلب كل منهما بالتساوي.

سأنتظر عيد ميلاد بترا، واجري ذلك الفحص اللعين لكل تلك الجينات التي تيم مهرجانات فلكلورية في دمها لكن سأعلمها ما تعلمته من وجودها تحديدا، أن الإنسان هو الغاية، والهويات ليست أكثر من أدوات.

 

قد يعجبك ايضا