1 ديسمبر 2023
جوان ملا – دمشق
يلقبونه في الوسط الفني “بالكوتش”، ولطالما طالبه مَن حوله دخول عالم الإخراج بعد سنين طويلة في العمل كمدير إضاءة وتصوير بمسلسلات مختلفة، نتحدث عن المخرج الشاب يزن شربتجي ابن المخرج الكبير الراحل هشام شربتجي، وشقيق المخرجة رشا شربتجي، وبعد محاولات دخل يزن فعلاً مؤخراً هذا الكار من خلال مسلسل “العرافة” السوري القصير الذي عُرِض مؤخراً عبر منصة تن تايم وهو من إنتاج شركة دراما شيلف، فكرة “بشار الصارم و محمد العلي، وسيناريو وحوار حمزة اللحام”.
العرافة عمل أكشن تشويقي اجتماعي ضم مجموعة من الفنانين السوريين المخضرمين منهم جفرا يونس، يزن السيد، حسين عباس، تولين البكري، ليليا الأطرش، هيما اسماعيل، عبد الفتاح مزين، الراحل محمد قنوع، مرح حجاز، محمد حمادة، وغيرهم من الفنانين السوريين، عشر حلقات تتفاوت في إيقاعها قليلاً لكنها بدت مميزة وتحمل حالة مختلفة في الدراما السورية بنقلة جديدة لهذا النوع من الأعمال الدراجة مؤخراً.

البدايات والإيقاع
يتعلق المشاهد بالعمل من حلقاته الأولى، فهو يبدأ باختفاء شابة من مستشفى الأمراض العقلية، ليبحث المشاهدون حول تفاصيل القضية فتتشابك بسرعة الخطوط ببعضها داخل سيارة عائدة من طرطوس إلى دمشق ليجتمع شخوص الحكاية الأساسية الثلاثة “يزن السيد، جفرا يونس، حسين عباس” مُشكّلين حالات من الرعب والقلق مع حالة الهذيان التي عاشتها سراب “جفرا يونس” حين رأوا صدفةً الشرطة والإسعاف يحملون جثة في الطريق، لنشاهد العرافة غير الموجودة “هيما اسماعيل” تخرج حولها من كل صوب وتخبرها بماذا سيحدث وبأن جميع من في السيارة سيموت، فتنطق هي بالكلمات التي يسمعها بطبيعة الحال الدكتور ابراهيم والمحامي حازم ليكون لكل منهما قصة مختلفة بالإضافة لقصة جفرا فتذهب الأحداث بالجمهور في كل حلقة للوراء بعدة أيام مع تقدم الحلقات، لتُعرَض كل حكاية على حدة “فلاش باك” ونعرف قصة “سراب، الدكتور ابراهيم والمحامي حازم”.
وقد تميزت الحلقات الأربعة الأولى بالتحديد بعنصر التشويق والشد الدرامي المتسارع دونما إبطاء أو ملل، بل كان هناك بالفعل مشاهد “مرعبة” وقوية ربما تُقَدَّم لأول مرة بهذا الشكل في الدراما السورية حقيقةً، لكن الإيقاع يبدأ قليلاً بالخفوت عند الحلقة الخامسة إنما لا تخلو كل حلقة تقريباً من عنصر مفاجأة ولو واحد يمكن أن يشد الجمهور، كمعرفة أن سراب ليست هي لجين الممثلة، وحين انتحرت شخصية مرح حجاز، ومعرفة المتآمرين على المحامي حازم من العاملين معه، وما حصل في نهاية الدكتور ابراهيم وماذا فعل بابنه في المستشفى بمشهد صاعق.
كلها أحداث لا تخلو من الصدمة في الحقيقة وتحمل عوامل الدهشة ومنفذة بطريقة جيدة جديدة لم نعتد عليها كثيراً كمشاهدين عرب، فقد اعتمد المخرج يزن على تقديم الشخصيات الثلاثة كلٌّ على حِدة، دون خلطٍ واسع بينهم، ليفردَ مساحة خاصة لهم، فتختفي مثلاً جفرا يونس ويزن السيد، لمدة حلقة كاملة، ويطل حسين عباس بقصته، كذلك يختفي حسين عباس فتطل جفرا ويزن وهكذا، فكان الجمع بين الشخصيات في البدايات فقط لكن في المنتصف بقيت الحكاية تتمحور حول شخصية واحدة منهم بشكل أكبر إلى أن تنتهي الخطوط هكذا بعيدة عن بعضها، وربما هذا ما جعل الإيقاع يهدأ أو يتخلخل لأن المُشاهد ليس معتاداً على عمل لا تلتقي شخصياته الأساسية كثيراً في أغلب الحلقات خصوصاً إذا ما كان قصيراً لا يمتد لحلقات طويلة مثل العرافة.
لكن رغم ذلك استطاعت القصة الحفاظ على الحبكة المشوقة والمشاهد المتقَنة، وتفوز الموسيقى التصويرية الرائعة والمتناغمة مع طبيعة العمل بشكل كبير خصيصاً في مشاهد الرعب التي قامت بها مرح حجاز مع يزن السيد بأداء عالي للاثنين، عدا عن الشارة الجديدة كلياً للعمل والتي تستحق الثناء، فبدا العمل مُصاغاً بحرفية موسيقية عالية شبيهة بالأعمال الأجنبية وبالعموم فإن فكرة العمل قليلاً تتقاطع بشكل بسيط ورفيع مع أفلام رعب أجنبية شهيرة، ليس بالمطلق طبعاً لكن برؤوس أقلام الأفكار التي طرحوها فقط وهذه الأفلام هي سلسلة final destination و I know what you did last summer
هذا طبيعي ووارد، وما يهم هو تقديم الحكاية “المخيفة” برؤى مختلفة عربية هذه المرة، وهذا ما حصل فعلاً لتكون الحكاية تحاكي أسلوباً أجنبياً في التقنيات والتنفيذ دون الخروج عن بيئة العمل السورية، فنحن لم نشهد على ابتذال ودماء ومشاهد خارجة عن المألوف أو مقززة، بل قصص متشعبة بلمسة رعب لا تخلو من الرمزية ضمن قالب واقعي بحت دون مغالاة وعويل وصراخ أو تقطيع، حيث يمكن تقبل أو توقع أنه يحصل في عالمنا هذا، لأنه لم يجنح نحو الخيال إلا للضرورات الدرامية في بعض المشاهد كمشهد التلاقي في سكك القطار بين حازم وأبو المجد الذي كان سوريالياً أكثر من كونه واقعياً، لكن على سبيل الحديث عن الخيال فإن سرد قصة سراب في منزلها القديم واسترجاع ما عانته في طفولتها كان متفوقاً بامتياز، وكان الخيال هُنا متناسباً مع شابة مريضة عقلياً، وقدمته الفنانتان جفرا يونس وهيما اسماعيل بتأثير عالٍ، وكان التصوير والإضاءة بطلة اللحظات هذه.

أداء متفرد حتى في الأدوار الصغيرة
استطاع المخرج يزن شربتجي ضبط ممثليه وإدارتهم، وتعتبر هذه الميزة من أهم العوامل التي تفرق المخرج الناجح من السيئ، والتي يفتقدها اليوم كثير من المخرجين الكبار للأسف، لا سيما في ظل تعنت بعض النجوم اليوم لتقديم ما يرغبون هُم به في المشهد شكلاً ومكياجاً أكثر من أن يتبعوا قواعد المنطق، لكن الستايل والمكياج والأداء في العرافة كان هادئاً بسيطاً لا انفعالات زائدة زائفة فيه ولا تخطي لغير المألوف، فشاهدنا جفرا يونس تبدع بدورها حقيقةً بأدوات حاضرة لم تَخبُ، وكان البرود الموجود في شخصية حسين عباس متناسباً مع أفكاره بالعمل لكن لم يَخلُ الأمر من بعض المبالغة في هذا البرود ليستفز المشاهد بشكل واضح وزائد عن حده، في حين اعتمد يزن السيد على وجه “البوكر فيس” أي المحايد في تعابيره بأغلبها لتأتي أيضاً مبالَغاً بها ببعض اللقطات، حيث كان بإمكانه الإزاحة عن هذا الوجه ولو قليلاً في لحظات الدهشة والخوف والمفاجأة التي لا يجب ارتداؤه فيها، لكن دور يزن يثبت فيه أنه يستطيع لعب شخصية مهمة وأن يؤديها بحرفية.

ليليا الأطرش أيضاً بدت هادئة وواعية في انفعالاتها، فمنذ مدة لم تقدم ليليا انفعالات نفسية داخلية بهذا الشكل الجيد والمهم، فنحن عدنا لنشاهد بهذا العمل ليليا الممثلة التي أحببنا، التي لا يقولبها المخرجون وشركات الإنتاج بدور البنت الدلوعة أو صاحبة الأزياء المتغيرة بكثرة والمكياج الدائم، بل شاهدنا سيدة بسيطة تبحث عن أمان مفقود من زوجها المتغيِّر عليها فجأة، وتأتي تولين البكري للحكاية لتضيف لمستها الخاصة أيضاً والتي لا يمكن محوها، لا سيما في مشاهد البكاء على ابنها، أما هيما اسماعيل فكانت آسرة بالعمل، كتلة من الغموض بأحاسيس تنبع من الوجه بذكاء، فعلت فكانت أبلغ من أن تقول، وحتى الراحل محمد قنوع ظهر في مشاهد مميزة مختلفة ومهمة، ورغم أداء مرح حجاز المميز جداً لكن هذه الشابة تتجه نحو التنميط للأسف، فالكل يريدها أن تبكي وتعاني في أدوارها، وهي مازالت شابة وبحاجة لتنطلق بأدوار أثقل وأهم ونراها بسيطة وتضحك، ربما مشاهد الرعب التي قدمتها أفادتها هذه المرة أكثر من حارة القبة مثلاً، لكن عليها أن تختار فيما بعد أدوارها بهدوء شديد، وتبتعد عن الشخصيات البُكائية.

وقدم محمد حمادة أداءً جيداً بانفعالات مهمة، فهو يبرع بتقديم الشخصيات “التي يمسها الجنون أو الإدمان” لكنه موصومٌ بها من أيام مسلسل القربان بشخصية الشاب المتوحد التي اشتَهر بها، لذا عليه أن يحاول الخروج عنها بأدوار تلائم موهبته وتعلّم في ذهن الناس كيلا يكرر نفسه، كما قدم مجدي المقبل شخصية دانيال بأدوات حاضرة أيضاً لم يبالغ بها ولم “يجعُر أو يثخّن صوته” كما هو معتاد لدى البعض، بل كان ذاك الشاب “الحربوق”، الذكي، المظلوم، في آنٍ معاً، وبالعموم فإن المخرج يزن شربتجي حتى في المشاهد الصغيرة لم يختر شخصيات تمر مرور الكرام، فبقي صوت صباح السالم في الذهن حتى بمشهدها الأوحد مثلاً، وظلت مريم علي ومحمد خاوندي في بالنا، وحتى هيا حسني حين أطلت في الحلقات الأولى بشخصية الممثلة لجين، ولا بد من التنويه على جمالية المشهد الذي ظهرت فيه كل شخصية من شخصيات العمل على حِدة وهي تنظر للكاميرا مع مونولوج تلقيه سراب بصوت ساحر
الرمزية حاضرة دون تكلّف
لم يكن العرافة عملاً تشويقياً فقط، بل حمل بين طياته رمزيات مختلفة واضحة لا حاجة لجهد فكري أو تعب عقلي لتفكيك شيفراتها، فنحن أمام شخصيات تواجه مصيرها بسبب ذنوب ارتكبتها، وكمشاهدين عاديين، يمكننا رؤية هذه القصة كحدوتة بسيطة مشوقة ممتعة مسلية، وكمشاهدين متعمقين نحب التحليل سنفهم أن هذه الشخصيات ما هي إلا رمز للذنوب التي نفعلها ونحملها معنا أينما حللنا، فسراب هي ليست متنبئة، ولا عرافة، بل هي مجرد صوتٍ للضمير الحي الذي يجب أن يصحو في وقته، والذي يرافق كل شخص فينا يشعر ضمناً أنه قام بفعل سيئ لكن يحاول تجاهله أو تخطيه، لذا كانت سراب ترمز للصحوة التي لا يمكن مواجهتها بسهولة، وحتى هي نفسها حين واجهتها لتقاوم تأنيب الضمير، عادت بعدها لمستشفى الأمراض العقلية، في دلالة على أن فعل الصحو هذا ما هو إلا ضربٌ من الجنون فعلياً، لكنه يبقى ضرورياً حتى لا يخسر الإنسان نفسه، لتنتهي الحكاية بمشهد مرعب يُظهِر شخصية الفتاة التي انتحرت بسبب المحامي حازم حتى حين غادر البلاد، فتأنيب الضمير يظهر لنا دوماً بأشكال مختلفة، حتى لو هاجرنا لآخر مكان في العالم، والخطيئة ترافقنا حتى الممات.
يمكننا القول إن العرافة عمل تشويقي رعب ذكي ومهم، استطاع الجميع فيه من فنانين وفنيين أن يخبرونا بأنهم يعرفون تماماً ما يفعلونه ويقدمونه ويؤدونه، دون الحاجة لوجود كوكبة نجوم، بل هو أعاد للدراما السورية شيئاً من البريق في ظل ندرة هذه الأعمال، والتي إن وُجدت تُنَفَّذ بضياع واضح، لذا وحتى مع وجود بعض الملاحظات، إنما تبقى تجربة المخرج الكوتش يزن شربتجي جيدة بالعموم، وقابلة للتطور بشكل مهم أكثر.

وربما أكثر ما يُعاب على العمل لا تنفيذه ولا ممثلوه، ولا تصويره، ولا قصته، بل هو عدم التسويق له بشكل أقوى كي يتعرف عليه العالم أكثر، فنحن في يوم وليلة استيقظنا لنشاهده مسرباً بشكل كامل على قنوات التلغرام، فما زالت منصة تن تايم قاصرة على الترويج لأعمالها بشكل جيد كما حدث تماماً قبل شهور في مسلسل إيكو، وربما كان يحتاج العمل لوجود نجم واحد على الأقل من نجوم الصف الأول السوريين للترويج له ولو قليلاً على صفحاته، فمع كل القدرات المهمة والأدوات الممتازة للفنانين الأبطال في المسلسل، لكن للأسف فإن معايير السوق تظل حاكمة للدراما في وقتنا الحالي، وهذه المعايير تفرض على شركة الإنتاج وجود نجم أو نجمة صف أول كي تسوق لعملها، أو أن يحضر على منصة مهمة وكبيرة، وأصلاً لا منصات قوية بالعموم في وطننا العربي سوى “شاهد” رغم ضعف الكثير من الأعمال المطروحة فيها، لكن التسويق لديهم مخطط وذكي والتمويل أيضاً.
ورغم أن الخروج عن قاعدة نجم الصف الأول مهم وضروري جداً لكل المنصات والشركات منعاً للتكرار والاحتكار، وتشجيعاً على تقديم عمل متميز يعتمد على نص جيد مع ممثلين موهوبين ليسوا من class A، إلا أن منصة تن تايم بحاجته حالياً في انطلاقتها لا سيما بتقديم عملها الثاني، وعدم الترويج الكافي لعملها الأول “إيكو” رغم وجود معتصم النهار فيه!
أخيراً، لا بد من شكر شركة دراما شيلف ومنصة تن تايم أيضاً على الاستمرارية في تقديم أعمال سورية صافية و المغامرة فيها، على أمل أن تكون خطة التسويق للمسلسلات القادمة لا سيما السورية منها، مخططة وذات نتائج أهم تصل للوطن العربي لا تقتصر على المنطقة المحلية والمهتمين بالدراما فقط!