الحصان الذي قلبَ فلسفة نيتشه – ضرغام عباس

14 أغسطس 2023

ضرغام عباس – شاعر وكاتب من العراق

“ما كانوا يعرفون أنَّ إنكار كل شيء عبودية ، وإنَّ الحرية الحقّة خضوع داخلي” –  البير كامو .

كتبَ دستويفسكي رائعته “الجريمة والعقاب” سنة 1866م متناولًا فيها سايكولوجية الفرد ، من حيث النزاع الداخلي، والفترات، التي تعقب فعل الجريمة من تناقضات كلامية و مرضية الخ… إلا أنَّ بطل الرواية “راسكولينكوف” لم يكن يعرف إن هذه الجريمة ، هي جريمة العمر بالنسبة إليه.

كان همّه الوحيد هو المال فقط. المال من حيث العيش لا من حيث اللذة. ربّما في رؤية أخرى من حيث أن ينال اسمًا بين الجرائد والصحف ، وأن يكون حديث الأخيلة، بعد ما كان مجرد نكرة ، وربما أيضًا كان مبرّر القتل هو الوسيلة الوحيدة في التحرر من قيود العبودية؛ عبودية الأخلاق والنبل.

هنالك افتراضات كثيرة حول سبب القيام بالجريمة وهذا ليس ما أنا بصدد تناوله في هذه المقالة.

عقب العمل الوحشي الذي قام بفعله راسكولينكوف، وعقب شخصية القاتل التي كانت تدعو للتحرر من الجبن، وعبودية الإنسانية. حلُمَ بما لا يخطر على البال وهذا الحلم هو محور الحديث هنا. حيث حلُمَ بأنّ هناك حصان هزيل ضعيف خاضع لعبودية السوط وأنّ السياط تمطر عليه من كل الجهات، تأمره بفعل فوق واقعي حسب تعبير “أندريه بريتون”.

الحصان الذي كان دائمًا ما يقول (نعم) فجأة، قال (كلا). هل هذه الـ (كلا) كانت نتيجة قول (نعم) باستمرار؟ أم كانت “مجرد (كلا) بديهية. هذا ما يُجيبنا عليه “البير كامو” في كتاب “الإنسان المتمرد” حيث قال: ” إنّ العبد الذي ألِفَ تلّقي الأوامر طيلة حياته يرى فجأة أّن الأمر الجديد الصادر إليه غير مقبول.

فما هو فحوى هذه (اللا)؟ إنها تعني مثلاً: إنّ الأمور استمّرت أكثر مما يجب، و أنك غاليتَ في تصرفك، وتعني أيضًا، هنالك حدًا يجب أن لا نتخطاه”.

قد يقول القارئ هنا، لكنه مجرد حصان. نعم يا صديقي إنه مجرّد حصان – حيوان يحسُّ بذاته إحساسًا عابرًا وغريزته الوحيدة هي البقاء. لكنّ الحصانَ الذي انكبَّ عليه راسكولينكوف في الحلم هو ذاته الحصان الذي انكبَّ عليه فريدريك نيتشه في الواقع عام 1889م، وأيضًا ذات الجملة التي قالها راسكو قد قالها نيتشه (أنا أشعر بك) أو (أنا أحسُّ بك) والفارق هنا بين الحالتين 23 سنة يا صديقي.

نيشته الذي عُرفت فلسفته بلفلسفة المطرقة وإنَّ لا وجود للإنسان الضعيف في مملكته، قد قال (لا) فما هو سبب قول (اللا) في مملكة قانونها الأول الحرية المطلقة – حرية ارتكاب الجريمة دون عقبات. إنَّ هذه المملكة التي تهدف لأحقية القتل لم تكن أسوارها السبعة حديثة البناء بالنسبة إلى نيتشه، بل أنَّ المركيز ساد هو من قام بوضع الحجارة الأولى لهذه المملكة قائلاً:” ما قيمة جميع مخلوقات الأرض إزاء شهوة واحدة من شهواتنا!”، وأيضًا قال: “إذا كان الله يقتل الإنسان وينكره ، فلا شيء يستطيع أن يمنعنا من إنكار أقراننا ومن قتلهم”.

مجمل العبارتين يدلُّ على شيء واحد ألا وهو – لقد ولّى زمن الخضوع ، لكن هل الخضوع هنا بمفهوم نيتشه هو النزول عن سلم الأخلاق وأنْ لا يكون المرء خاضعًا لملكوت الإنسانية؟ بالطبع نعم، والنعم هنا استنتاج لما ورد في مؤلفات نيتشه وبحثه الدائم عن الإنسان الخارق. فما هو إذن هذا الإحساس المفاجئ اتجاه حيوان هزيل ضعيف قد سئم قول (نعم)؟

هل من ممكن أنْ تكون القراءة الناضجة هي السبب في التناقض الذي عاشه نيتشه في أواخر أعوامه، حسب رأيي لا، لأنَّ صاحب المبدأ لا يتخلى عن مبدئه. وهذا ما قد فعله هتلر بعد ما تبنّى فلسفة نيشته في البحث عن الإمبراطورية الخالدة. فما هو إذن السبب الذي دفع نيتشه للنزول من مبدأ (لا رحمة) إلى (نعم للرحمة) هل هو اللاوعي؟

هل هو الإحساس بالذات ؟ أم الشعور بها؟ هذا ما أتركه للقارئ ، فكل قارئ هو راسكوي في الحلم ، ونيتشوي في الواقع.

قد يعجبك ايضا