أولاد البلد – إيراهيم داوود

7 أغسطس 2023

ابراهيم داوود – شاعر وصحافي مصري

أولاد البلد والريفيون عادة لا يذهبون الى الذين يعيشون بمفردهم و”ايدهم فاضية”..أقل واجب: باكو شاى وكيس سكر وربع بن (واذا كنت لا تذكر أى بن يفضل؟ .. تأخذ ثمن غامق وثمن فاتح). واذا كانت ظروفك تسمح تأخذ لصديقك خرطوشة سجائر من سجائره (واذا نسيت ماذا يدخن ؟.. تبقى مارلبورو أحمر). واذا كان من الذين يفرحون بالفاكهة فلا بأس.

عشت بمفردى سنوات طويلة، وكان يدخل على أصدقائى الطيبون بأياد مليانة، وعلى رأس هؤلاء الفنان الحبيب لطفى لبيب (أتم الله شفاءه) والسيناريست المدهش الصديق سامى السيوى، وغيرهما من عشرات الأصدقاء، كنت حين أذهب لزيارة أحد ـ ولازلت ـ أفعل ما تحتمه على ظروفي.

فى احدى المرات فى منتصف التسعينيات كنت ذاهبا الى الفنان الذى أسماه أحمد فؤاد نجم سيد درويش الكاريكاتير ، الأستاذ “حجازى” عنوان النقاء والشرف والموهبة في كل من عرفت، كنا صيفا، وكنت “واسطة” لديه لكى يمنح إحدى الصحف المستقلة (ترخيص قبرص) “رسمة” للعدد الأول، كما يفعل مع كل اصدار جديد، وبدون مقابل، (كان رحمة الله عليه لا يرد على التليفون إلا يوم 22 فقط من كل شهر، واذا تذكرت اليوم وهاتفته يحدد لك موعدا بعد يوم أو أسبوع أو ثلاثة وربما يطلب منك اصطحاب صديق يحدده بالإسم أو أكثر.

وفى الحاجة الملحة مثل “الرسمة” عليك أن تهاتف الشاعر الكبير الراحل فؤاد قاعود الوحيد ـ وقتها ـ الذى لا ينقطع الإتصال بينهما)، كان يسكن فى شارع سعيد ذو الفقار فى المنيل، أخذت “اتنين كيلو عنب بناتى شكله حلو” من ميدان الباشا وصعدت، عادة يكون قد أنجز “الرسمة أو الرسمتين”، يسأل عن الإصدار الجديد وعن العاملين ومصدر التمويل قبل أن يسلمك الشغل، كنا عصرا، وهو موعد الشاى والقهوة والإصطباحة وما إلى ذلك، وكان الأصدقاء ينتظرون فى مقهى الحاج عبد الجواد فى شارع رمسيس، أخذ كيس العنب ودخل المطبخ، غسله ووضعه فى الثلاجة ودخل غرفة النوم دقيقة وعاد يمضغ العنب مستحسنا طعمه وبين أصابعة “500 جنيه” إلى حيث نجلس، وقبل أن يستريح فى قعدته قال لي ” انت مامعاكشى فلوس”، ضحكت ضحكة مرتبكة، لأنه لا توجد بيننا سوابق فى هذه المنطقة، اعتذرت شاكرا، وضع الفلوس فى جيب جلبابه الأبيض نصف الكم العلوى، وبعد دقائق من الصمت، وقف وقال وهو متجه إلى ثلاجة الصالة الإيديال ، “انا عايز أقول لك كلمتين .. وعاد بزجاجتين مشبرتين.

تحدثنا عن طنطا، وعن أحبابه .. أمثال الشيخ مصطفى اسماعيل و صلاح جاهين وعن نجم وحسن فؤاد وعن علاء الديب وصلاح حافظ وجميل شفيق وبهجت عثمان ومحمد قناوى وبدر الرفاعى ومصطفى رمزى وجودة خليفة وحامد العويضى، تحدث عن عادل إمام، وعن عادل حمودة وابراهيم عيسى (فى سياق مختلف) وعن الكورة، ورفض الحديث عن مفيد فوزى (كان قد تقدم باستقالته من صباح الخير فور تعيين مفيد رئيسا للتحرير)، هو ساحر ، بسيط ،عميق، مدهش، إجاباته لا يقصد من ورائها الحكمة ولا اصطياد المفارقة، الوحيد في من عرفت الذى حافظ على الطفل الذى بداخله كما هو، وكان جرس الباب يضرب كل ساعتين .. يأتى شخص من محل أسماك “عروس البحر” المجاور بطلب ساخن، هو من حببنى فى سمكة “موسى” التى كان يفضلها عن بقية الأنواع، كنا نتحدث ونشرب وندخن دخانا فاخرا..

فى الثانية صباحا قال لى وهو يضع فى يدى الـ”500جنيه” وهو يصافحنى قبل أن أفتح الباب للخروج: ” لو واحد حبيبك ادالك فلوس خدها وانت مبتسم.. وماتبصش فى عنيه.. وما تقولوش شكرا” .

قد يعجبك ايضا