لطفي تياهي: لا يمكن الحديث عن مشارقة و مغاربة إلا على الخريطة

3 سبتمبر 2023

حاوره: هاني نديم

بات فن الومضة اليوم حاضراً في الأشكال الشعرية الجديدة خاصةً مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار الكتابة السريعة التي تقرأ بأقل وقت لكنها تبقى وتصل إلى أبعد مدى.. هذا تحدٍ جديد في فنون الكتابة يحتاج إلى تكثيف هائل لتصل رزمة من الأفكار بأقل قدر متاح من اللغة.

وفي هذا التمظهر الشعري ظهرت أسماء عربية عميقة ومؤثرة، لا شك أن الشاعر التونسي لطفي تياهي من بينها. التقيته في هذا الحوار لأشاركه هواجسي وأتعرف إليه أكثر. سألته:

  • بودي لو اطلعت معك على أوراقك الشعرية الأولى، كيف بدأت تلك العلاقة وإلى أين وصلت؟

– سؤالك عن البدايات ورطة يا صديقي أحببت فتاة كنت مستعدّا لتفتيت جبال قريتي لأجلها، لكنّها لم تحبّني أبدا، حتى بعد أن أخرجت الأفعى من قنّ دحاجات أمّها تحت وطأة زغاريد جاراتها لم تحبّني.. لم أكسب من حادثة الأفعى تلك غير أنّني صرت أعرف كيف أنجو من لدغات النساء فيما بعد. ثمّ تتالت خيباتي مع الفتيات كأنني بيّاع تجاعيد في أسواقهنّ، يقولون أنّني شوكيّ كفاية كي أمزّق حرير فساتينهن وهنّ مارّات لحروبهن الجندريّة، كان لابدّ أن أتقيّأ عاثر الحظّ و الأحول في التّصويب و الأطرش في مواكب الأعراس.. المقيمين في صدري أتقيّأهم بالكتابة و بالكتابة، كان كلّ ما أكتبه ينتهي في سلّة المهملات.. تلك كانت البدايات فقط ولم أكن أعرف أنّني سأغفل عن زند قلبي إلى ذلك الحدّ الذي أفقت ذات صباح بحفرة ناب اللغة عليه، كلّ ما أكتبه منذ ذلك حين هو ما أكنسه من تلك الحفرة من غبار الحروب و رفاة جثث لا أعرف أصحابها وعويل ذئاب منفردة ضيّعت قطعانها.

وحدي لم أكن كافيا ولا جاهزا لعبور هذه الأهوال و كان لزاما أن أجد عصى أقدّمها على خطواتي كي لا تُطبق عليَّ مخالب اللغة فخاخها. إخترت الومضة في البداية قصيرة و مدبّبة كل جهاتها أنيابًا، لكنها لم تف بغرض العبور ببقاياي بعد إنفجار الدّهشة إلى ضفة النّجاة أعرجًا. الآن وبعد أقلّ من عشر سنوات صرت أهرّب الفاتنات بلا هوادة / السجائر الكوبية / النبيذ الفاخر بالبطاقة الزرقاء / اليتامي الرّاكضين خلف عربات الحلوى كأنّها تبيع الإباء / السجّاد الأفغاني الذي نجى من الحشيش / تنهّدات الأربعينات النيّئة / نواح النّايات في أمّ القصب/ الدّود أوّل الواصلين قبل الثّمار / المحطّات بالوداعات الحارّة و الباردة / القطارات في تمام مواعيدها / الكلاب التي عضّها الوقت/ الأرصفة محشوة بالمشرّدين / المدن المخاطة بالأزقّة / و سلع أخرى كثيرة في كراتين الومضة إذا أسعفني اللّيل الطّويل وغفلة الجمركي الأخلاق على الحدود قد أهرّب قصائد نثرية طويلة من ذلك النّوع المطرّز بالخيبات المذهّبة حسب الحاجة.

الورقة التي يعلّقونها على بوّابة الوطن الأولى و التي يمسكون طرف رأسها بسكّين مرشوق لجذع البلد وعليها صورتي بالأبيض والأسود كرعاة البقر ومكتوب عليها شاعر مطلوب للأعداء الأبابيل.  رغم أنّني لا أثق في تسميات الدّوائر الرّسمية لذلك لا أعتبر نفسي شاعرا – تمثّلني جدّا .

نحن أبناء الجِلدة والجِبلّة الواحدة

  • هل العلاقة بين الأقاليم العربية مربكة؟ هل هنالك حقاً مشارقة ومغاربة؟ كيف ترى الأمر ثقافيا؟

– اللهجات المحلية هي سياق لغوي مخصوص جدا على ما يوجد فيها من مفردات مشتركة بين الأقاليم العربية المتباعدة أحيانا في جغرافية المكان و لكن الجامع المشترك من مقدّس ولغة عربيّة والريح وغبارها والموروث بمختلف تفصيلاته يجعلنا أمام حقيقة التّقاطعات الكثيرة بين مختلف الأقاليم العربية وهو ما يحيلنا أنّنا أبناء الجِلدة والجِبلّة الواحدة المبعثرون في الأرض بفوضانا التي أنتجت شعرنا وسردنا وأغانينا ورقصنا وأكلنا و معمارنا ونحن بصدد ترتيبها.

قد يحصل الإرباك بين الأقاليم العربية ونحن نتطلّع لطرائق كل إقليم في محاصرة ما يخصّه داخل الكلّ ويتأتّى الإرباك أيضا جليّا في تأثّر الفن و الثقافة بطقس كل إقليم و كيفية إضافة الخصوصية على المشترك ، لا يمكن الحديث عن مشارقة و مغاربة إلا في الخريطة فالثقافة عابرة للحدود و النص منفلت من الإطار الزّمكاني، الترجمة مثلا مُفسدة حدود وأوطان وحمّالة لأبدان النصوص من أرض إلى أرض دون جواز سفر فما بالك بالحديث عن شعوب تشترك في اللغة بمختلف تمظهراتها الفنية و الثقافية.

أحلامي بسيطة جدا: أن يستأذنوا أحلام الأطفال قبل الحروب الخاطفة

  • حدثني عنك، عن لطفي خارج الأدب، آماله وأحلامه، أحزانه ومباهجه؟

– لطفي خارج النص هو الإبن الأكبر لعائلة مقدودة من فقر تونسي خالص، إبن قرية نائية عن المترفين والصّحف و نشرات الأخبار وزائدة عن حاجة السّاسة، تحيط بها الجبال من جهاتها الأربع، كلّ أملاكنا بعض زيتونات خجولات و كلب عربي أصيل ينبح كلّما هبّت الرّيح و يحرّك ذيلة للغرباء، تحصلت على شهادة الباكالوربا آداب ثم إختصاص لغة و آداب عربية في الجامعة التي طردت منها بسبب نشاطي السياسي المعارض لسيادته الحاكم بأمره.

ودائما تعرف الحياة كيف تواصل طريقها و لو أفلتنا منها أيادينا، لذلك إستطعت بطريقة ما أن أبني أسرة.. ليست على هيئة أجود أنواع الأسر ولكنها تليق بي وتفي بحاجتي لأعرف كيف تُدار الأسر بين يدي موظف تونسي بسيط براء إبني البكر، رجل صغير سأورّثه حزنا عظيما ومنافقين كثر وقصائد بائتة. بيان إبنتي التي كلّما غنيت لها قبل النّوم وجدتها في الصباح تجمع كراسي الحفلة و زوجة تعرف كيف تتحمّل مسؤولية أخطائي وشرخ يمتدّ حتى أسفل ظهري تركه زلزال موت أبي الذي قالوا أنّ صوتي يشبهه ومن حينها وأنا أختبئ عنّي و أناديني أقترف الآن الكتابة وهي أكثر شيء مُتعة أفعله وأنا أرتدي ملابسي.

أحلامي بسيطة جدا: أن يستأذنوا أحلام الأطفال قبل الحروب الخاطفة، أن يُكرّم مبدع في حياتة و أن لا يستغلّ السياسي عرق الفقراء ليصبح بائع عطور ، أن يستطيع إبن البستاني أن يتزوّج إبنة صاحب القصر ، أن يزيد معدّل القراءة في تونس عن الست دقائق في السنة. مباهجي لازلت لا أعرفها ، أمّا عن أمنياتي فهي أن أعثر يوما على شاعر حقيقي سعيد و أن يجلس نخيل العراق دون أن يقوم من جديد لفظ عراك بين أبنائه و أن يفيض ياسمين الشّام ليخفي بقايا طلقات الرّصاص على وجنات الجدران وأن يستعمل اليمن سعادته الملقاة في بيت الجيران.

أحزاني كثيرة و سمينة، قطعان لي أكتب بجلدها و قطعان أربّيها إذا فاجأني فرح عابر و صغار حزن أعلّقهم فزّاعات لضحكات غير متوقّعة..حزني أن يضعوا خشبا بدل البلّور في محلاّت الملابس الجاهزة في الأحياء الفقيرة فلا ترتدي عيون الأطفال بدلات جديدة، حزني أن تنتهي العذابات من الحبّ وأن يجلس مراهقان في حديقة عامة كزوجين منذ ثلاثين عاما، حزني أنّ الشجرة لا تعرف أنّ أحد أبنائها إسمه تابوتا.

 

  • كيف ستنجو وأنت صديق قريب لرحيم جماعي؟ هذا السؤال في تغليظ المدح أو الذم للأصدقاء الذين يغيرون مساراتنا

– رحيم الجماعي هو الفخّ الذي لا يُدفن في الأرض ولا يوضع عليه طُعم.. هو هكذا ظاهرا فصيحا وتذهب إليه عنوة ليطبق عليك.. هو الرّجل الذي يمحو عمرك الفائت بمجرد مصافحة ويبدأ العد من تلك اللحظة ..رحيم جماعي هو أن تكون هانئا في أمان الله و تقوم لتقبيل قطار يجري بسرعة الصوت، صاحبي الذي منذ أن إصطدمت به و أنا كتف بكتف أنا و الضوء السّاطع، رحيم جماعي ثروة عربية نبتت صدفة في تونس ووجب تأميمها لقلب المعادلة مع الشمال و ترسانته النووية، هو كائن من كوكب آخر ذهب لكشك سجائر ففاتته مركبته وبقي عندنا، نحاول تحليل جيناته و فكّ شفرة لغته منذ ستّين عامًا ..هل تعلم يا هاني نديم أنّ رحيم جماعي كائن لا يشيب و هو متجه نحو الستين بلا هوادة بقلب طفل مشاكس و خطير؟ رحيم جماعي صاحبي الذي إذا أشعل سيجارة نفث دخانها قلبي.. رحيم جماعي لا يعرف شيئا غير الكتابة وعدم إفلاته يد صاحبه مهما حاولوا أن يدسّوا حجرا في كفّه . رحيم جماعي كاتب تونسي عظيم و قلب شاسع و نصّ فريد بينه و بين الكتّاب و الشّعراء أطنان قصائد.

قد يعجبك ايضا