5 أغسطس 2023
هل الصحافة مادة عنيفة؟ هل هي مصدرٌ وفعلٌ جاذب للعنف؟ لعل الجواب هو: نعم، ذلك لأنها تنقل الحقائق، والحقائق ستوجه أو تحرّك جهة ما، كما أنها تعمل بدور الرقيب والمراقب والمحامي، والقاضي في كثير من المرات. نعم، في غالب الأمر تستفز الصحافة المنظمات والمؤسسات والوزارات وأصحاب النفوذ وفي كثير من الأحيان المهمشين والمظلومين، إنها تستفز العالم بأسره إذاً!
العنف لغةً هو الفعل ضد الرفق واللين، أنه فعل عدواني وصفات مهددة تبرز وتتكرر من جهة موجهة إلى طرف معنف، وقد تصل إلى حد الإهلاك والقتل، وعادة ما يصاحب العنف استخدام أدوات لفظية أو مادية لإرهاب المعنف، من سلاح أو نفوذ أو منصب.
أما من الناحية السوسلوجية، يقول د. خليل ابراهيم خليل: كل إيذاء باليد أو باللسان، بالفعل أو بالكلمة، يندرج في الحقل التصادمي مع الآخر ويسمى عنفاً، ورغم أنه حالة تدرس بذاتها لكنه غير معزول عن موجباته وظروفه ومبرراته.
في الانتخابات الأمريكية الأخيرة، انتشرت قمصان مكتوب عليها:
شجرة + حبل + صحافي.. هذه معادلة لا بد من تجميعها
المتظاهرون يطالبون بقتل الصحفيين، مع الأسف، هذا مؤشر إلى أن العامة تكره الصحفيين بدرجات متفاوتة، بدءاً من التهكّم الناعم إلى حد القتل والسحل.
في دول الحروب والاضطرابات، تشكل مهنة الصحافة قلقاً حقيقياً للجميع، للمتنفذين وخروقاتهم، وللمهمشين خوفاً من نسيان قضاياهم، أو التغافل عنها ومحاباة الجهات العليا. وفي دول القمع الراديكالية، فإن الصحافة عليها أن تكون صحافة “هريس وحليب” على حد وصف الكاتب الكبير مارك توين، أي بما يعني: النعومة والإيجابية وإن صار وشاغبت فـ”ضربة على الحافر وضربةٌ على السندان”، توين الذي عمل كصحافي فترة في حياته، وكتب عن ذلك في قصته القصيرة الكلاسيكية “الصحافة في تينيسي” التي تحكي حكاية محرّرٍ شاب يقدم تقاريره إلى صحيفته التي تم توظيفه بها للتو، ويقدم موجزاً عن الأخبار المحلية التي أوردتها وسائل الإعلام الأخرى، فيثير غضب رئيسه الذي “أزبد وأرعد” وقال له: “هل تفترض أن قرائي سيواجهون كل هذه العصبية والكوارث؟ أعطني القلم!”. ويعيد رئيس التحرير كتابة المقال بشكل ناعم لا يثير الغضب ولا يدل على العيوب، وكان يكتب ويشتم رؤساء تحرير الصحف المنافسة واصفاً إياهم بالأوغاد والكذابين وناشري الكذب والقلاقل والافتراءات”. ثم يقول لمحرره الجديد: “هذه هي طريقة الكتابة هنا.. نعومة وحياد، صحافة الهريس والحليب تمنحني الجماهير”.
إن “صحافة الهريس والحليب” التي أثارت غضب محرر صحيفة توين الوهمية، تلك الصحافة المحايدة وغير المؤذية، هي نوع من الصحافة الوسطية التي نشأت في القرن العشرين، وهو ما أطلق عليه الصحفي والسياسي إدوارد جاي إبستين “أخبار من اللا مكان”. إلا انها موضوعية، أي أنها مجبورة لأن تتوجه إلى جميع الأطراف وتخفف من أحرف مقالاتها المدببة وسكاكين أعمدتها الصحفية لتقنع الناس بالتساوي وتوسع دائرة خطابها. وهو ما يعرف بشكل أو بآخر بالموضوعية، أو الكيل بمعيار المصلحة العامة الأوسع ومبدأ الإنصاف. وقد استمر عصر الموضوعية الصحفية من حوالي العام 1930 إلى 2000. ومن هنا اقترح يوهان غالتونغ “صحافة السلام” وهي الصحافة التي تعمل على حل النزاعات، والتي تراعي النزاعات، وتقوم بالتغطية البناءة للنزاعات حول العالم.
ولكن الصحافة اليوم خارج تلك اللعبة، إن خطابها يزداد عنفاً ويخرج يوماً بعد يوم من يد المنظمات والمؤسسات نحو الأفراد والمواطنين، وبالتالي فإن قراء الصحافة يزدادون عنفاً بدورهم.