5 أوغست 2023
د. حسين القاصد – ناقد وشاعر من العراق
تميل السلطات السياسية إلى توظيف المثقف لخدمتها، لا سيما ممن لهم مكانة جماهيرية أو محبة بين الناس؛ ثم ينزوي هؤلاء إلى البرج العاجي في حضن السلطة، وتظهر بصماتهم في الشارع، ويحفظها الناس لارتباطها بحياتهم.
السلطات التي تقوم بهذا الأمر هي السلطات الشمولية الدكتاتورية، ذات البعد الحزبي التنظيمي التعبوي، وقد اعتمد القوميون أيام عبد الناصر موضوعة (إحياء التراث) شعاراً، لكي تعتمد كلّ ما جرى في الماضي سنداً شرعياً لسلوكها السياسي وظلمها للناس في أغلب الأحيان.
تبدأ هذه الحكومات بجعل اسم الرئيس الأوحد يتصدَّر الأغاني وأناشيد الطفولة، كما تروج – دائما – إلى أن البلد مهدَّد وتجب حمايته، وأن عدواً ما يتربص به، فتتم عسكرة المجتمع لخدمة الرئيس الأوحد لا خدمة الوطن.
اعتمد القوميون على المجد الإسلامي بصبغته القومية، ورحَّلوا الشعوبية من العصرين الأموي والعباسي إلى الزمن المعاصر، وصاروا يرمون بها (الشيوعيين) وغيرهم ممن لا يعتقد بفكرة القومية الحزبية، وتأثروا بما قامت به الدولة الإسلامية في بداية عهدها، بتغيير أسماء المدن؛ فحين هاجر الرسول الأكرم إلى (يثرب) صار اسمها المدينة المنورة، وخلد هذا الاسم ورسخ إلى يومنا هذا، لكن القوميين لكي يرسخوا افكارهم أخذوا يغيّرون أسماء مدنهن وشوارعهم وكأنهم أنبياء جدد، وهو الأمر الذي بدا جلياً وواضحاً منذ بداية عصر النهضة في القرن الماضي .
حين انتهت (الفورة) الناصرية، وأسطورة البطل القومي، الذي عمّمَ الافكار الأيدلوجية التي تخدم وحدانيتها؛ جاء البعثيون في العراق وساروا على نهجه لكي يتسيّدوا المجد العربي ويصفقوا للبطل الأوحد الجديد.
اعتمد عبد الناصر على استقطاب الفنانين والأدباء وجعلهم ماكنة إعلامية له، وبهذه الماكنة، فضلاً عن التوجيه الإذاعي والتلفزيوني، صار المواطن يرى عبد الناصر في المقهى والبيت والحدائق العامة، وصار يراه حتى في المطبخ !
وبهذه الماكنة – أيضاً – قاد عبد الناصر هجمته الإعلامية على العراق بجيش من نجوم الطرب العربي، أم كلثوم، عبد الوهاب، عبد الحليم، فضلاً عن مئات الشعراء المصريين والعرب؛ كان العراق وقتها يرفض الدخول ببدعة الجمهورية العربية المتحدة، بين مصر وسوريا والعراق، إلا أنَّ العراق بزعامة عبد الكريم قاسم رفض الدخول إلى هذه الوحدة المريبة !.
ساند عبد الناصر شعراءٌ عربٌ وعراقيون، ومن بين العراقيين كان السياب ونازك الملائكة، بعد أن تحوَّل عبد الوهاب البياتي من حاضنة عبد الناصر إلى حاضنة الزعيم عبد الكريم قاسم؛ مدّعياً اليسارية !
ومثلما اعتمد عبد الناصر على المثقفين والإذاعة والتلفزيون، صار للزعيم عبد الكريم قاسم أن يجعل السياسة وتفاصيلها من الهموم اليومية، فبعد تأسيس اتحاد الأدباء ونقابة الصحفيين في العراق، وكلاهما برئاسة محمد مهدي الجواهري؛ دخلت الإذاعة والتلفزيون خندق التدجين السياسي بدلاً من دورهما التنويري والتثقيفي الحر للمجتمع، فأصبح الشعب يتابع تفاصيل وقائع جلسات محكمة المهداوي بكل تفاصيلها وهو في بيته أو في الباص أو في المقهى، وحتى في مقر عمله.
وما إن اغتيل الزعيم قاسم على يد عملاء عبد الناصر من عبد السلام عارف وزمرته، حتى انصهر المشروع العراقي وانحرف انحرافا كاملا عن عراقيته ليجد نفسه في رقعة شطرنج عبد الناصر وقادته بيادق في يده، فجاء مؤتمر الأدباء العرب الذي أقيم في العراق بعد مقتل الزعيم، ليصبح أحد وسائل الإعلام للمشروع القومي الناصري، وهو المؤتمر الذي في ختامه أعلن عبد السلام عارف تجديد البيعة والولاء للجمهورية العربية المتحدة وزعيمها الأوحد جمال عبد الناصر.
تضمَّنت القصائد، لا سيما العراقية منها، إدانة وهجاء للماضي القريب وللحكم القاسمي، وهكذا صار الأدب وسيلة إعلام سلطة.
في زمن عبد الكريم قاسم تم توزيع مدينة الثورة بين سكنتها من الفقراء وغالبيتهم من جنوب العراق، وأطلق عليها اسم (الثورة) تيمناً بثورة 14 تموز 1958؛ وبعد أن آلت السلطة للنظام العارفي تم تغيير اسمها من (الثورة) إلى (الرافدين)، حتى آلت الأمور إلى انقلاب 1968 فعاد اسمها الثورة .
ولعبة تغيير الأسماء نسق ثقافي سلطوي بدأ يتفاقم بشكل واضح في الحقبة الملكية وما تلته من الحقب، وقد اشترك فيه العراقيون والمصريون معاً، حيث يقول الشاعر أحمد الصافي النجفي في قصيدته “تسمية الشوارع” ولا بد من الوقوف عند هذه الالتفاتة العظيمة من الشاعر حيث انتبه إلى نسق الترغيب الذي تمارسه السلطة حيث تنصب التماثيل وتسمّي الشوارع بأسماء الحكام ليرسخ الحاكم في كل ما يحيط المواطن من أشياء الحياة، فيعترض احمد الصافي:
قلت خلوا عنكم أسامي أشخا ص فهذي عبادة الأوثــــــــــان
لا تسموه شارع الملك السا مي وسموه شارع الوجدان
بعد عام 1968 صارت الأنظار العربية تتجه للعراق، وصار المشروع القومي من متبنيات السلطة العراقية، ومثلما كانت قضية فلسطين وتحريرها من أهم شعارات التصدير عند عبد الناصر، صارت الهم الأكبر لدى العراقيين بعد الضخ الإعلامي المؤسساتي؛ وكي يثبت البعثيون أنَّهم على نهج عبد الناصر، أعلنوا تأميم النفط أسوةً بتأميم قناة السويس؛ فصار لهذا التأميم عرس احتفالي يقام كل عام، وتذبح له القصائد ويزف إليه كبار الشعراء، وتكتب في المؤلفات ويدخل المناهج الدراسية.
في هذه الأعوام كان صدام حسين يدجن الثقافة ويبني المؤسسة التي ستتغنى به لاحقا؛ فصدرت التوجيهات أن يدخل الوطن أو كلمة العراق حتى في أغاني الغزل:
الله يا هالوطن شمسوي بيه الله
نيرانه مثل الثلج تجوي واكول اشّاه
واللي مضيع ذهب بسوك الذهب يلكاه
بس اللي مضيع وطن وين الوطن يلكاه!!
لم يتساءل المواطن العراقي بأنه قد يجد الذهب في سوق الذهب لكن كيف له أن يشتريه من سارقه؟ وهل هذا يعني أن هناك سوقاً للأوطان اذا ضاعت؟ وما علاقة الموال بأغنية غزل راقصة! العشك من الله من الله واني شبديه ؟
ومثل هذه الأغنية الكثير، منها:
الدنيا حلوة
الناس حلوة
والوطن باسم سعيد !!
والأغنية في الغزل أيضا!!
ولعل أغرب الأغاني تلك التي فيها وصف وتشبيه لا يمكن للعاشق ان يتخيله:
يلجمالك سومري .. نظرات عينك بابلية !!
فهل رأينا الجمال السومري كي نصف الحبيبة به ؟ ومن منّا تلقى نظرة من عيون حسناء من حسناوات بابل أيام حمورابي؟ وهو هنا يريد تعزيز الفخر بتراث العراق لكن بصورة مشوهة جدَّاً.
إنَّ هذا الإعداد استمر لعشرة أعوام تقريبا، ليتحوَّل القائد الأوحد من شخص إلى وطن!! ويغني له من تم إعدادهم طيلة عشرة أعوام، فيكون الخطاب مباشرا وواضحا (العزيز انت .. ياهيبة بيتنه وقائد وطنّه) لأن (بين الشعب وبينك عهد وشفته بعينك).
بعد تبعيث الأغنية (أي جعلها بعثية) ثم تصديمها (أي جعلها صدامية) عاد النظام الدكتاتوري لتسمية او تغيير المسميات القديمة، فصار اسم (7 نيسان) يطلق على الأحياء السكنية، وبعض الشوارع، مثل (حي البعث) وصارت أسماء مثل حي (الوحدة) تطلق على الأحياء السكنية، ومثلها (الرسالة) !.
وأسوةً بسابقيه صار يستدعي أسماء تاريخية ليسمّي بها المدارس، بعضها أسماء لقادة في العصر الأموي أو العباسي، والبعض الآخر أسماء معارك، أو أسماء من قاموس الخطاب الحزبي؛ فصار لدينا مستشفى اليرموك، ولعلنا الأمة الوحيدة التي تسمي أحد مستشفياتها على اسم (معركة) ! فأين الحرب من الشفاء؟ وليت الأمر انتهى عند هذا الحد، لأنَّه تعدَّاه، فصار اسم مدينة الطب (مدينة صدام الطبية) ومطار بغداد الدولي (مطار صدام الدولي)؛ وكثرت وانتشرت المسميات المقترنة بصدام، ففي كل محافظة تجد مدرسة قادسية صدام او مستشفى صدام؛ بعضها جديد، تمَّت تسميته بصدام، وبعضها قديم مثل مستشفى الطفل في الاسكان الذي صار اسمه مستشفى صدام لوقت ليس بالقليل.
كان الهدف هو أن يصل صدام إلى كل زاوية من زوايا هموم المواطن، فضلا عن التدجين وجعل الاعتقاد أن اسم صدام يمثل كل شيء؛ ولعل حادثة تثير الضحك والسخرية معاً، وهي حادثة تسبَّبتْ بها حالة اقتران صدام بأسماء المدن، فحين تحول اسم مدينة الثورة إلى (مدينة صدام) صارت الدوائر فيها تسمى كالآتي: مديرية تربية صدام، أو تربية صدام الثانية، ومثلها عشرات الدوائر، لكنَّ المطب الأكبر كان في (مكافحة إجرام صدام) والمقصود بها مكافحة الإجرام التي تقع هناك، فأخذ الناس يتداولونها على سبيل (النكتة) !.
والآن، وبعد زوال الوثن الرملي، هل لنا بخبراء يلبّون رغبة أحمد الصافي النجفي، ويسمّون جسر (صدام) جسر الوجدان؟ وكيف يستقر هذا الاسم دون ترسيخ ورابطة حياتية؟ فإذا كان مستشفى الحيدري تحوّل اسمه إلى مستشفى الأولمبي، ربما لحساسية كلمة الحيدري.
الأندلس ليس أقدم من اتحاد الأدباء والكتاب في العراق، لكننا حين نريد أن نذهب إلى الاتحاد نقول لصاحب التكسي قرب مستشفى الأمل للأورام، أو خلف مستشفى ابن النفيس، أو قرب وزارة التعليم العالي! وفي بابه يقف شاخصاً تمثال الجواهري مؤسِّس الاتحاد وشاعر العرب الأكبر؛ ذلك لأنَّ الناس تحفظ أسماء الأماكن التي لها تماس بصميم حياتها، أو تحفظها باسمها الأول اذا كان قد شاع وانتشر، وهذا ما لم ينتبه له القائمون على الوضع الحالي؛ لأنَّهم على الرغم من تغيير مستشفى (عدنان خير الله) إلا أن المرضى حين تخبرهم باسمه الجديد، لا هم يعرفونه، ولا صاحب السيارة الذي يوصلهم يعرفه.
إنَّ الثقافة من الأعلى هي ثقافة سلطوية توجيهية ممنهجة، تسهم في إشاعة ثقافة تعبوية تأخذ الطابع العفوي ظاهراً، لكنَّها تضمر ترسيخ ما تريد السلطة إشاعته والتثقيف له، والا فالتأميم حدث في كل العراق فلماذا تكون محافظة كركوك هي محافظة التأميم؟ سوى أن نسق الترسيخ يراد منه تطبيع الناس على هذا الاسم، حتى تمرّر السلطة مآربها.