22 يوليو 2023
وسام كنعان- مكتب دمشق
لن تتفوق السينما على الواقع مهما صاغت الشغف وحاكت خيوط الدهشة وصنعت الإثارة والتشويق. يبقى الواقع أكثر صدمة خاصة في ما يمكن التقاطه من قصص آسرة لا تفنى ولا تموت مهما تعاقبت السنين وتراكمت الأزمان.
على هذا المنوال يمكن القول بأن كلّ ما أنجزه الكاتب والفيلسوف الفرنسي ألبير كامو (1913/1960) على أهميّته وثقل وزنه النوعي، والذي سيبقى مكانه عالياً في رفوف المكتبات العالمية لزمن طويل، لن يكون سوى امتداد منطقي لشكل يوميات طفولته، وبداية شبابه المعجونة بطعم القهر، والمصبوغة بلون الإجحاف! فبعد ولادته من أمّ صمّاء، وأب عسكري فرنسي يخدم في الجزائر أثناء احتلاها من فرنسا، مات والده في معركة عسكرية، وتوّلت جدّته تربيته ليناضل لاحقاً ضد احتلال بلاده للجزائر، ومن ثم ضد الاحتلال الألماني لباريس وهناك التقى المفكّر جان بول سارتر!
عقد اتفّاق صريح ومبكّل مع جدّته ينصّ على التالي: تسمح الجدة له مزاولة هوايته وموهبته، بشرط وحيد هو أن يلعب حارس مرمى فقط دوناً عن أي مركز آخر!
لكّن الملفت بأن الرجل دلف إلى عالم الأدب من بوابة مستديرة السحر. وما الضير، فهل هناك أبهى من ذلك الباب المصوّن بالألق؟؟! سيسأل أحد الشغوفين بكرة القدم ليكون جوابنا عليه بسرد قصّة صاحب «الطاعون» (صدرت عام 1947) مع لعبة كلّ العصور وجميع الأزمنة:
فمنذ طفولته تولّع «الإنسان المتمرّد» (كتاب طبع له سنة 1955) بكرة القدم بطريقة آسرة، لكّن جدّته كانت تُحرّص عليه ألا يتعلّق بها أكثر، وأن يكفّ عن اللعب، ليس خوفاً على مستقبله أو خشيّة إصابته، بل حفاظاً على حذائه الوحيد من الاهتراء! هكذا، كان عليه المعاناة طويلا قبل التسلل هرباً من عرّابته الأسرية قبل أن يصل إلى مطرح هوسه وعشقه الأول أي ملعب كرة القدم, إلى أن تمّكن الحفيد أخيراً من عقد اتفّاق صريح ومبكّل مع جدّته ينصّ على التالي: تسمح الجدة له مزاولة هوايته وموهبته، بشرط وحيد هو أن يلعب حارس مرمى فقط دوناً عن أي مركز آخر!
يا له من اتفاق صعب ومجحف وكأنه معادل موضوعي لمن يمنح بداية غفوة هانئة لشخص محاصر من كلّ صوب بالأحلام، لكنّه بالمقابل يرسم له شكل مناماته، سلفاً ويختار ألوانها، بل والطريقة التي سيحلّق بها خلال تلك الرحلة الموازية لحدود المساء!
على هذه الشاكلة لم يرق لألبير كامو الطفل هذا الأمر في البداية كونه كان يحبّذ اللعب كمهاجم، لكّنه وافق على مضض، ليكتشف لاحقاً بأنه المركز الأكثر فسحة للتأمل والتفكير والتوّقع والاستشراف، وهو ما جعله يضع اللبنة الأولى لفلسفته وليس في ذلك أي إدعّاء أو مبالغة طالما هو بنفسه من قال ذات يوم بعد أن وقع في غرام هذا المركز الأساسي في اللعبة : «حارس المرمى يستطيع التأمّل .. وقد تعلمت من هذا المركز كيف أن الكرة تحتاج تركيزاً وسرعة بديهة، فهي لا تأتي دائماً من المكان الذى نتوقعه» إذاً، من بين الخشبات الثلاث نسج صاحب «الغريب» (صدرت عام 1942) مطرحاً وافياً لاعتداده بنفسه، كونه كان يحلّق على إيقاع هتاف الجمهور عندما يتصدّى لكرة خطرة، ويزداد تباهياً بنفسه كلّما حافظ على شباكه نظيفة، ولمح نظرات الإعجاب في عيون رفاقه. وكان مهيئاً له أن يذهب بعيداً في ما صبا إليه، وأن يصبح واحداً من الحرّاس المكرّسين على مستوى العالم ربما، لولا أن الضربة التي سدّدت تجاهه هذه المرة كانت أقوى من أن يردّها ولا بأي شكل، لأنها تمثّلت بمرض السلّ الذي أصابه وأجبره على اعتزال كرة القدم إلى الأبد. دون أن تتوقف حياته عن دراما حبس الأنفاس، والتقلّبات الحادة في خطواته، بقصد التحرر الفكري المطلق، والتمرّد الذي نادى فيه، فترك وراءه حروباً شرسة وهجومات لاذعة، حتى أنه كان عضواً في منظمة اليونسكو لكن كتعبير عن تضامنه مع الشعوب المقهورة أعلن سنة 1952 استقالته من منصبه في هذه المنظمة، احتجاجاً على قبول الأمم المتحدة عضوية إسبانيا وهي تحت حكم الجنرال فرانكو.. الذي كان أحد قادة الانقلاب على الجمهورية الاسبانية سنة 1936 ما أخذ البلاد لحرب أهلية قبل أن يحكمها الديكتاتور بقبضة حديد بين عامي 1938 و 1975 إي لحين وفاته.
حتى في المشهد الختامي من حياته سيكون كامو بطلاً مطلقاً لقصّته المثيرة كما عوّدنا عليها، وسيوّدع العالم بعد جلسة جمعته بوزير الثقافة الفرنسي آنذاك يعرض عليه فيها توّلي منصب الوزير خلفاً له، لكّن الموت كان أسرع، وخطفه بعد أن تعّرض لحادث وهو يقود سيارته لدى عودته من ذاك الاجتماع.
فيما لا يزال يعتبر صاحب «الطاعون» جداراً استنادياً يتكئ عليه عشّاق كرة القدم باعتباره قيمة بليغة حصدت «نوبل» عن سلسلة مقالات كتبها ضد حكم الإعدام! فيما ظلّت قاعدته عن الفتبول بمثابة مرجع حياتي خاصة أنه يقول فيها: »تعلمت من تلك اللعبة أن الكرة لا تأتي مطلقاً نحو أحدنا من الجهة التي ينتظرها منها… وقد ساعدني ذلك كثيراً في الحياة خصوصاً في المدن الكبيرة حيث الناس لا يكونون مستقيمين عادة« بينما صارت جملته التي يقول فيها: «كلّ ما أعرفه عن الأخلاق أدين به لكرة القدم» بمثابة شعار يستحق أن يرفع على بوابات ملاعب العالم جميعها! إلى جانب إضافة بسيطة تقول : «من هنا يبدأ السحر وهنا ينتهي»!