ثم أغمض عينيك حتى تراني – أدهم عامر

6 يوليو 2023

أدهم عامر – كاتب سوري

لست بوارد شرح الفرق بين معنى البصر والبصيرة، فمعظم الناس يدركون الفرق، لكني أردت أن أتناول هذا الموضوع من زاوية أُخرى، فلطالما كان منظر الكفيف، يثير بداخلي شفقة وحسرة، منذ صغري، حتى أني حاولت أن أتلبّس الحالة.. ففي إحدى المرات، أغمضت عيني وحاولت أن أمارس الأنشطة اليومية المعتادة، وفشلت في إكمال دقيقة واحدة دون بصر

… فتحت عيني بعد أن شعرت بالضيق حد الاختناق!..وتساءلت: كيف يتمكن الأعمى من تَدَبُّر يومه؟ … لم أجد جواباً حينها، كنت شاباً صغيراً يتلمّس دربه ويصقل مداركه… ثم كبرت واقتربت أكثر من عالم المكفوفين فرأيت العجب العجاب …

ومهما حاولنا البحث عن بدائل وصفية أخف وطأة وأقل فجاجة، فلا شك بأن العمى إعاقة! إعاقة حقيقية تمنع الأعمى من العيش ( بسلاسة ) فالبحث عن الأشياء يصبح أكثر صعوبة، وكذلك ارتداء الملابس، وإعداد الطعام وغيرها من المهارات التي تتطلب حاسة البصر ليتم إنجازها على الوجه الأكمل، أو فلنقل، ليتم إنجازها بيسر وسلاسة. لكن مهلاً! هل انتهى الموضوع هنا ؟ الجواب: قطعاً لا.

تابعت في الأيام الماضية عدة حلقات من برنامج ( سهرة مع عمار الشريعي ) أذهلني الرجل … ليس فقط باختصاصه كعازف متمكن، وملحن كبير، بل بوصفه مثقفاً من طراز نادر، يمتلك من سعة الأفق، ورهافة الحس، وسرعة البديهة، ما يميزه عن معظم أقرانه من المبصرين، ولمست لديه – كما لدى معظم المكفوفين – ميلاً للدعابة وحسّاً عالياً فيها. وبدا لي جلياً بأن قفل (باب البصر ) قد ساعد على فتح ( باب البصيرة ) على مصراعيه لدى معظم المكفوفين، حتى ليخيل إلي بأن (نعمة حاسة البصر ) لدينا نحن المبصرين، تشتتنا وتمنعنا – في كثير من الأحيان – من التبحُّر والتعمُّق، فاقصى ما يقدمه لنا البصر هو ملامسة سطوح وقشور الأشياء من الخارج. وحدها البصيرة التي صُقلت وتطورت – وإن قسراً – كما لدى المكفوفين، هي القادرة على التغلغل تحت السطوح، والولوج عميقاً في لُب المحتوى وكُنه المعنى.

نذكر من مشاهير المكفوفين، الفيلسوف الشاعر أبو العلاء المعري، وقد أصابته بصيرته وقتها في مقتل، فأمسى ( رهين المحبسين ) وغدا مبصراً في عالم العميان أوليس هو القائل الساخر:

في اللاذقية ضجة ما بين أحمد والـمسيحُ

هذا بناقوس يدق وذا بمئذنة يـــصيحُ

كلٌ يعظِّم دينه يا ليت شعري ما الصحيحُ ؟

ومن منا لم يسمع بعميد الأدب العربي طه حسين؟ هذا العملاق الذي أفنى عمره في حروب قادتها بصيرته ضد الجهلة المبصرين في زمانه. حتى قال فيه نزار قباني:

ضوءُ عينيكَ أم هما نجمتانِ كلهم لا يَرى.. وأنتَ تراني

ضوءُ عينيكَ أم حوارُ المرايا أم هما طائران يحترقانِ

إرمِ نظارتيكَ ما أنتَ أعمى إنما نحن جوقةُ العميانِ

أما شاعر اليمن العظيم عبد الله البردّوني فيستحق أن نفرد له صفحات لا مجال لها في هذه الإضاءة السريعة:

والعمر مشكلة ونحن نزيدها بالحلّ إشكالا إلى إشكال

لا حرّ في الدنيا فذو السلطان في دنياه عبد المجد والأشغال

والكادح المحروم عبد حنينه فيها وربّ المال عبد المال والفارغ المكسال

عبد فراغه والسفر عبد الحلّ و الترحال و اللّصّ عبد اللّيل والدجّال

في دنياه عبد نفاقه الدجّال لا حرّ في الدنيا ولا حريّة إنّ التحرّر خدعة الأقوال

الناس في الدنيا عبيد حياتهم أبدا عبيد الموت والآجال

أدخل السجن في عهد الإمام أحمد بن يحيى بسبب مساندته لانتفاضة الدستور فقال:

هدني السجن وأدمى القيد ساقي فتعاييت بجرحي ووثاقي

وأضعت الخطو في شوك الدجى والعمى والقيد والجرح رفاقي

في سبيل الفجر ما لاقيت في رحلة التيه وما سوف ألاقي

سوف يفنى كل قيد وقوى كل سفاح وعطر الجرح باقي!

عالم العميان هو عالم سحري من البصيرة الخالصة، لا يُشتته البصر وليس أبلغ أو أدلّّ على هذا، من قول الشاعر جورج جرداق: قد أطال الوقوف حين دعاني ليلم الأشواق عن أجفاني فادن مني وخذ إليك حناني ثم أغمض عينيك حتى تراني!

قد يعجبك ايضا