الدراما العراقية تبشّر بمسار جديد

مسلسل غيد نموذجاً

حوراء النداوي – كاتبة عراقية
لا يمكن إنكار ان الدراما العراقية مؤخراً قد اتخذت مساراً مختلفاً عن السنوات السابقة التي سادت فيها مسلسلات كوميديا الاستظراف والبلاهة، التي لم تعد مضحكة بقدر ما هي مؤلمة للسمع والبصر. نسبياً زادت أعداد المسلسلات المنتَجة من قبل القنوات الخاصة، وبطبيعة الحال خلق التنافس عبر الوقت والكم، نوعية جديدة ومختلفة من الأعمال.
ويبدو أن الأمر بات طبيعياً ومستساغاً بالرغم من كونه مخيباً، أن تُنتقى أعمال قليلة جداً لتُختم بختم الجودة، بين ركام من الأعمال المتواضعة والفقيرة فنياً، وذلك حتى في بلد فيه صناعة كبيرة مثل مصر. مع الكم ومع ظهور صناعة للدراما في البلاد، سيُخلق النوع أيضاً، وبان ذلك خلال رمضان من هذه السنة بالذات. بعد سلسلة من أعمال ظهر فيها الممثل وهو يتحدث بلكنة عراقية هجينة، ناهيك عن فقر الحوار عبر قصص مستعارة على نحو مبتذل من بكائيات الدراما التركية المطولة، ظهرت لنا هذا العام أعمال مثل غيد والعشرة على سبيل المثال، فكانت مختلفة عن السائد.
لأول مرة بعد عقود من الزمن تتناول الدراما العراقية طبقة معينة من المجتمع كانت مغيبة درامياً لصالح حكايا الريف والإرهاب مثلاً؛ فيعالج مسلسل غيد العلاقات الاجتماعية والإنسانية، ليتحدث عن الطبقة المتوسطة أو ما فوق المتوسطة بقليل. أُسَر منفتحة انفتاحاً معتدلاً، نساء عاملات يصنعن ما يسمينه “بالكرير”، ويذهبن الى “ميتنغ”، لأن هذه تماماً أدبيات هذه الطبقة من المجتمع. الحوار في المسلسل كان لافتاً من الحلقة الأولى. حوار طبيعي غير مفتعل ويستخدم عبارات من البيئة العراقية اليومية، تحديداً في بغداد. وحتى تلك الكلمات والجمل التي بدا أنها تتضمن رسالة من نوع ما، كانت عفوية وغير مصطنعة أو ممسرحة. لم تكن أبداً بتلك الطريقة المعتادة التي تجبر المشاهد على الشعور بالانفصال عن العمل، فيبقى واعياً لعدم واقعية ما يشاهد، وبذلك فهو يشك في كل لحظة، بدل أن يعطّل شكّه طوعياً، كما هو مفترض على نحو تلقائي أثناء استقبال العمل الفني.
يحسب لمسلسل غيد العديد من الإيجابيات، من اختيار الوجوه المشاركة؛ وسام ضياء كما لم نره أو نتوقع أن نره. إعادة اكتشاف ممثلة من العيار الثقيل هي جمانة كريم، وتقديم وجوه شابة مثل رفل، شاهندا، علاء الابراهيمي، وغيرهم، كلهم يمثلون بتلقائية مقنعة ولافتة، ويتضح هنا التأثير المحكم والسيطرة الكاملة للمخرج علي فاضل، حتى على الممثلين من ذوي المشاهد الصغيرة أو الهامشية. وهنا ظهر المخرج أيضاً بشكل مختلف، ما جعلنا نتساءل، ترى لماذا يستنزف بعض فنانينا مَلكاتهم في أعمال أقل جودة وقيمة، بينما يتمتعون بمواهب أكبر مما يقدمون؟! الكادرات وحركة الكاميرا والتعبير البصري عن اللحظة، وتناول انفعالات الممثلين، كل ذلك كان مدروساً بعناية، وقدم صور مغايرة ومميزة بصرياً وفنياً.
رسم الشخصيات لم يكن نمطياً، فمثلاً لم نر الشخصية المتدينة بصورة نمطية بل واقعية وطبيعية بما تفترضه طبيعتها. الأخت الوسطى المحجبة كانت إضافة ذكية وحقيقة، بما ان المحجبات يشكلن نسبة كبيرة من المجتمع العراقي. وكما تتنوع لدى العديد من العوائل التوجهات، تظهر هذه الأسرة العراقية المكونة من أب أرمل وثلاث بنات، بشخصيات متنوعة ولها عدة أبعاد؛ ما بين الأخت الصغرى التي تعمل ضمن منظمات المجتمع المدني، والكبرى ذات الطموح المهني العالي الذي يعرقَل بسبب الحمل والولادة، ثم المشاكل التي تغرق فيها. بأداء رائع وسهل من أسعد عبد المجيد، بملامحه العراقية الصرفة، التي تتعرف عليها في وجوه نسبة ساحقة من آبائنا، تقدم لنا شخصية الأب. هذا الرجل الوحيد والمُتعب، والمغلوب على أمره، في عنقه مسؤولية كبيرة، لكنه مُحب وعطوف، وفي نيته إعطاء الدعم والحماية لبناته حتى آخر نفس.
قد يعجبك ايضا