24 يناير 2024
د.رفيف مهنا – طبيب نفسي وأديب
أعتقد ، وقد يكون اعتقادي مبالَغاً به قليلاً ، أنني قضيتُ أكثر من نصف طفولتي في الشارع الملتصق ببيتنا. و كُنتُ أحب جداً تهديد أمي ” بدّك الناس تقول عنك .. ابن شوارع”. نعم لقد كنت ” ابن شوارع”.
الشارع الملاصق لبيتنا كان أكبر وأعقد من حقيقته بكثير ، مرنٌ متفاعِل دقيق حذِر، فقد كان يتحول بسلاسة من ملعب لكرة القدم إلى مساحة كافية للعبة ” الطقّة والإبرة” التي كانت تنمي فينا التوازن النفسي والعاطفي والجسدي ، فهي لعبة تميز تماماً وبسرعة بين الهاوي والمحترف.
شارعنا كان كافياً لأن يلعب فيه كل أطفال الحارة بدون احساس بالزحمة ، قابلاً لأن نتقاسمه بين ألعاب الذكور المتوحشة وألعاب الإناث اللطيفة بدون أن يعتدي طرف على طرف . وإن صار ووصلت كرتنا لحصة إناثنا فهي فرصة لممارسة فعل الإعتذار و الشعور بالذنب.
شارعنا كان جزءاً لا يتجزأ من البيت ، و خصوصاً أنه يسمح للأهل أن يشاهدوا أطفالهم مباشرة و يتابعوا ما يفعلون . صحيح أن أيّ من أهالينا لم يكن ليتابع تفاصيل لعبنا لكنه كان مكاناً مضموناً عاطفياً رغم خطورته الجغرافية ، فأن أسقط أرضاً أنا النحيف الخفيف وأنا أركض خلف كرة مسرعة ، هذا يعني أنني سأعود للبيت مهشم الركبتين والأكواع مجروحَ الشفّة. لم تكن تخاف أمهاتنا كثيراً علينا من إصابات هذا الشارع فقد كان حنوناً رغم انه من أسفلت وبحص.
بالمقابل فقد كان هذا الشارع القصير مكاناً يستطيع فيه أي أب أو أم أن توجه الملاحظات لأي طفل فينا ( نصيرُ فيه ملكاً جماعياً .. أطفال مشاع) بدون أن نتحسس أو تنكسر كرامتنا .
لم تصدّق أمي عيونها عندما شاهدتني في الشارع ألعب بالكرة قبل ساعات من امتحان العلوم في البكالوريا ، و أتخيل أنها تلت في سرّها صلوات مسرِعة لترفع عن كاهلها مسؤولية هذا الولد المجنون بالكرة والشوارع. هذا هو حظ ابن الريف مثلي، أن يطمئن أهله عليه في البيت وفي الشارع.
ابن الريف لا يضيعُ أبداً.
ابن الريف هو طفلٌ مطمئنٌ.
عائلة الريف هي عائلة مطمئنة.
الشارع في الريف ليس للمشي بل للقاء.
وإن سألتني اليوم عن وطني، أقول لك: هو الشارع الملاصق لبيتي الريفي، هو وطني الأوسع.
في حارتي كان عدد الإناث أكثر من الذكور ، كانت حارة مؤنثة جداً ( ومنها أفسّر حضور أنثاي بشكل واضح).
مؤنثة لدرجة يمكن فيها أن نعتبر أن كلمة “شارع” وبما تقدمه من احتواء ولمٍّ و حنان واتساع ، لا يمكن أن تكون اسماً مذكراً.
حتى الشارع الملاصق لبيتي .. كان أنثى!
هامش :
كلمة شارع بالفرنسية la rue هي اسم مؤنث .