معروفٌ من المختار؟

17 ديسمبر 2023

رانيا يوسف – كاتبة سورية

لدينا ألفُ سببٍ للبكاء، لكنّنا لا نبكي، الحزن انسلَّ من القلبِ وسكن تماماً بين الجلدِ والعظم، فلا تخدشنَّ عربياً حزيناً.

بكى الرجل السبعينيُّ لمَّا سألته عن عنوانه، عندما كنت أستكمل البيانات في استمارةِ البطاقةِ الشخصيَّةِ الحديثة، وبكيتُ معه بكاءً مرّاً حقيقياً، لمَّا قال لي: “ليش ضل عنَّا عنوان يا آنسة، ما ضل شي”.

نحن الذين كانت عبارةُ معروف من المختار على بطاقاتنا الشخصيَّةِ عنواننا، لكنَّه كان زمناً غابراً، معروفٌ من المختار، معروفٌ جداً من المختار، وتعرفنا أشجار الحي وذؤاباتها، والريح المشاكسة التي تعد بالرجوع وترجع، يعرفنا الطقس الذي لم يكن يكذب، كما أصواتُ الجداتِ في الحكايا، معروفٌ من المختار، وتعرفنا حجارة الطريقِ، إذا ما شبَّينا أو شبنا، إذا ما سافرنا أو عدنا.

ولمَّا نصير غبارا. كانت حياتنا تبدو مملَّةً ورتيبةً كأنَّ ليس فيها ما يستحقُ أن يُرى، كيف انفجر كلُّ هذا الألم ومن أين جاء؟. هاقد ضاعَ دفتر الديون المهترئ في الدكان الوحيدِ في الحيِّ. وتلاشى العطر الرخيصُ بمطارح قبلاتِ العاشقين، وقد تآكلت عن آخرهاعلبة السمن المعدنيَّةُ _ والتي نعرفها جميعنا- بعد أن استنفذت أمهاتنا كل طرق تدويرها، فزرعنَ فيها وردة. وصار أن لم يعد لدينا عنوان، لكأنَّما انتصبت بيننا وبين ذواتنا، جدرانٌ عالية…. عاليةٌ جداً مستحيلةُ التَّسلق. فيعذبنا مصيرٌ مجهول، ونكظم غيظنا في عناء.

يا عم لقد نسيتُ كيف يواسي النَّاسُ النَّاسَ، إذ أنَّ كلَّ الكلام قد صار هذراً، في لجَّةِ هذا البحر العميقِ من الآلام، وسنبدو جدُّ محظوظينَ لأنَّ الحروب جعلتنا فقط بلا عناوين. نبدو كصبيةٍ تقافزوا فرحين لأنهم تمكَّنوا من الهرب والإفلات من مجنون يطاردهم، بالرغم من أنه اصطاد أحدَ أقرانهم فريسةً له، ولمَّا يحن دورهم بعد. يا عم … أقول لنفسي: بأنَّ الموتى ذاتهم قد رجعوا ليموتوا، إذ أنَّي لا أُطيق ولا أُريد أن أُصدَّق بأنَّ للموت جوعاً أغبراً، وأنَّ للحرب هذه القدرةَ المفزعةَ على البطش، لكن….. مؤشراتُ أرقامِ الضحايا في ارتفاعٍ مهول، وإلى جانب روائحِ الدِّماء تضطرمُ صور النَّاس، واجمين حزانى تائهين، وهم يشتغلون عبثاً دعواتِ المقابر الجشعةِ الشرهةِ.

لكن يظلُّ في قلبي يقينٌ، بأنَّنا يوماً ما سنعرفُ كيف نستخدم النَّار التي تحرقنا، كما فعل ذات يومٍ قائدٌ صينيٌ، كاد يعلن استسلامه لأعدائه الذين يعربدون عند أسوار قلعته المحاصرة، ويؤجلون إمعاناً في ذلِّه إعلان نصرهم، لم يتبقَّ لشعبهِ المحاصر واليائس سوى الصلوات لطرد الأرواح الشريرةِ، بإشعال الألعاب النارية، لكنَّ القائد كان على وشك اكتشاف غيَّر وجه الحرب، فقد أمر باستخدام البارود كأسهم ٍ ناريةٍ وليس كألعاب، انقضَّ بها على معسكر أعدائه محققاً نصراً عظيماً.

لدينا ألف سببٍ للموتِ لكنَّنا لن نموت.

قد يعجبك ايضا