مرتضى الجصاني: ألمس روح الكلام.. وأخطّ

17 أغسطس

حاوره: هاني نديم

مرتضى الجصاني فنان عراقي يمتلك فلسفة ورؤية إلى جانب الدراية التامة بفنون الخط والآدب العربي، وهو ما حلّق به اليوم كواحد من أهم الحروفيين العرب. إنه يدخل داخل الحرف ويحركه وفق المعنى والمؤدى، ويعيد تصدير أنواع الخط بطريقته التي صارت له هو. التقيته في هذه الدردشة.

سألته:

• أحب أن أعود معكم للبدايات، كيف بدأت علاقتكم بالخط؟ وأين أصبحت وكيف انتقلت من الرسم إلى الجوهر؟
– لازلت أحاول تفسير البدايات وشغفي بفن الخط دون أن أصل إلى تفسير منطقي أو علمي، لأني كنت مهووسا في حب الخط دون معرفة قواعده أو حتى معرفة أن ما أقوم به هو فن بحد ذاته، كنت أحب أن أكتب الحروف بشكل مختلف فقط ويدفعني لذلك حب عميق لاكتشاف أشكال مختلفة لنفس الحرف وأشكال متعددة للكلمة الواحدة وتنويع كتابة الجملة دون الالتزام بقواعد خطية معروفة  كنت مغرما بلافتات وأرمات المحلات التجارية على الجدران المكتوب منها بخط ساحر وجميل ومذيلا بتوقيع كاتبه، كما أقف مندهشا لجمال الأشرطة الخطية التي تزين أعناق القباب الذهبية للمراقد المقدسة وغالبا كانت مشغولة بالكاشي الكربلائي، والذي تمتد جذور صنعته إلى العهد البابلي ويمكن ملاحظة ذلك في بوابة عشتار ولونها الأزرق، كانت هذه المشاهد حافزا في كل مرة أشاهدها أرجع محملا بطاقة غريبة للكتابة دون انقطاع.
تكلل هذا الحب بهدية من الوالد تمثلت بكراس “سراج بغداد الوهاج” للخطاط هاشم البغدادي، أهداها لي والدي وهو على معرفة بقيمة هذه الهدية، لأنه كان خطاطا أيضا لكنه لم يحترف الخط، لم يفارقني هذا الكراس رغم تعدد المصادر والأشكال والخطاطين لكني أجد فيها عبق بغداد وأنفاس هاشم البغدادي، وهي نفحة من نفحات الإلهام  لم يتغير شغفي بالخط لكني أصبحت أكثر دراية وأكثر معرفة وأكثر خبرة وهذا ما يحتاجه الخط العربي، كونه فن يعتمد على التمرين بالنظر واليد والإحساس بالحرف عند كتابته وسير القلب متتبعا مسار القلم والحبر على الورق.
أما عن انتقالي من رسم الشكل إلى رسم الجوهر كما وصفته؛ فكان الانفلات وانعتاق من السرب والتغريد خارجه دون عودة ، وبطبيعة فن الخط هو نوع من أنواع التجريد الذي ينطوي على مضامين متداخلة من الصوفية والرمزية وعلم الباطن يمكن التعبير من خلالها وكأنها نص داخل نص ؟

الخط العربي والحرف بذاته يحمل فلسفة وأبعادا صوفية وتأويلية لكن يجري تسطيحه في أغلب الأحيان

  •  قَسَّم الجاحظ الدلالة إلى خمسة أقسام، من بينها الخط، حدثني عن الحرف العربي من وجهة نظرك، كيف تراه وتجسده وتعكس معانيه، عن اللغة والأدب. كيف تختار ما تريد خطّه.
– بالضبط، إن الخط نوع من أنواع الدلالة سواء عن طريقة الكتابة أو عن طريق فن الخط، لأنه بطبيعة الحال الخط فن أنبثق من الكتابة والحرف العربي محمل بالدلالة والرمز ويتخذ أشكالا مختلفة في رسمه لذلك هو يحمل طاقات كامنة يمكن التعبير من خلالها إضافة إلى الطريقة النمطية المعروفة المقتصرة على جماليته كشكل جميل تكتب به الآيات القرآنية والحكم المأثورة وبعض أبيات الشعر العربي، من هنا حاولت أن أقول أشياء كثيرة عن طريق الخط العربي فقط أي دون إقحامه في دوامة الحروفية السائدة البعيدة عن أصل المدارس الحروفية أو الاتكاء على فنون أخرى.
نعم حاولت توظيف الخط العربي بشكل يجعله يتسيد اللوحة أن يكون هو اللوحة نفسها وأن يعطي أبعاداً مختلفة ومتعددة للعمل الفني، وأن يحمل العمل بعدا تأويليا وهذا من خصائص الخط العربي من الأساس. وغالبا أحاول اختزال النصوص التي أتعامل معها، اختزالها عن طريق الخط عن طريق الحذف والإضافة، وأن أعبر عن روح النص وليس كتابته بشكل جميل فقط، وهذا الاختزال في المضمون والمعنى ومن ثم في الشكل يتأتى من الممارسة والمرونة في التلاعب بحركة القلم بين الأصابع وأعتقد هذه العملية هي الخط هي المسافة بين التعلم والاحتراف، وبالتأكيد للتعبير عن نص كتابي صامت لا يحمل لونا أو شكلا أو ملامحا كما في أعمال الفنون الأخرى لكنه يحمل روحا.
 لابد من تحدٍ في محاولة قراءة النص أكثر من مرة للخروج بفكرة تحمل القيم الجمالية والقيم التعبيرية بنفس الوقت، الخط العربي والحرف بذاته يحمل فلسفة وأبعادا صوفية وتأويلية لكن يجري تسطيحه في أغلب الأحيان ويتعامل معه على أنه شكل صامت، لذلك أنا دائم المحاولة في البحث عن أشكال وأليات تجسيد الحرف والتعبير من خلاله.
لدي غرام في اللغة والأدب .واللغة هي نسق من الرموز والإشارات للتعبير عن الباطن، وكما يراها مارتن هايدغر فإن اللغة هي بيت الوجود الذي يسكنه الإنسان ويحرسه ،وأيضا يقوم بمهمة التأويل ولهذا باللغة يمكن التعبير عن الأشياء، وبهذا المعنى؛ فاللغة هي التي تفتح لنا العالم بهذه الأهمية.. يأتي السؤال الدائم كيف يمكن التعبير من خلال المتعارف والمألوف بشكل غير مألوف! مما يجعلني كثير البحث في كتب الأدب وصنوفه اقتبس من النصوص ما يجذبني ويلهمني ويملك إيقاعا موسيقيا بين كلماته ومن الجدير ذكره أن شكل التعبير هو الذي يستغرق وقتا طويلا وتفكيرا في شكل التأويل وحركة الحروف وتداخلها وانسيابيتها واصطدامها ببعضها وأحيانا تشظيها وتناثرها. لذلك النص الأدبي بالنسبة لي مهم جدا وينطق قبل كتابته وفي كثير من الأعمال أشتغل نصوصا لي على شكل اختزالات تصل بالعمل أن يكون من كلمة واحدة.
عدا ذلك فأن أغلب النصوص الأدبية التي أشتغل عليها هي مكتملة الشكل مسبقا تكون وظيفتي هي التلاعب في ميزان النص وبعثرته ومن ثم إعادة صياغته وفق نظرتي الخاصة القائمة على الحذف والإضافة من النص الأدبي إذن هو عالم قائم بوحده كما يعبر عنه ابن عربي في قراءته لعلم الحرف: ” الحروف أمّة من الأمم مخاطبون ومكلّفون وفيهم رسل من جنسهم ولهم أسماء من حيث هم ولا يعرف هذا إلاّ أصحاب الكشف” وهذا مدار حديثنا
الخط العربي في خطر إذ أننا لا نمتلك القدرة على اللحاق بركب الفنون الأخرى وهذا التحدي تخلصت منه الفنون الأخرى مبكرا
  •  مع ثورة التقنية هذه، هل أصبح فن الخط العربي في خطر، كيف ترى الأمر من وجهتك كمختص؟
– هو ليس في خطورة فقط، بل أكثر من هذا، ولكن بسبب عدم القدرة على اللحاق بركب الفنون الأخرى وهذا التحدي قديم ويتجدد ، تخلصت منه الفنون الأخرى مبكرا أو استطاعت التعامل مع الزمن إذا أخذنا الرسم مثلا ومع بدايات ظهور الكاميرا الفوتوغرافية انبثقت مدارس جديدة للرسم ابتكارات فنية جديدة حلول جديدة قدرة على التعامل مع المجتمع والبيئة والتاريخ والفلسفة والمسرح والأدب والعمارة ، كل هذه الأصناف الفنية متداخلة بتكوينها بفلسفتها كما في مدرسة الباوهاوس التي جمعت بين الحرفة والفن والمتأثرة بمدارس التكعيبية والتعبيرية وهكذا في السوريالية والتفكيكية تداخلت في تأثرها وتأثيرها بين الأدب والفلسفة والفن.
نعم الخط العربي فن له خصوصية لأنه مرتبط بطريقة أو بأخرى بالمقدس مما جعله حبيس القداسة بأن يكتب مئات أو آلاف الخطاطين نصا واحدا بنفس الشكل ومقياس الإبداع هو القدرة على إتقان القواعد، إذن هناك معايير مختلفة في فن الخط العربي هي التي جعلته في خطر دائم وتهديد بالاندثار، لا شك هناك حلول فنية إذا تعاملنا مع الخط العربي كأي فن آخر له ما له وعليه ما عليه، وبصورة عامة لا نملك حركة نقدية حقيقية وما يكتب على إنه نقد هو بالحقيقة انطباعات شخصية، إذا وضعنا فلسفة ونقدا فنيا حقيقيا عندها يمكن للخط العربي أن يتخطى الحرفة إلى الفن.
الآن التقنيات الحديثة تقوم بكل شيء، خصوصا بالنسبة للخط العربي هو الآن بحكم غير الموجود من جانب الوظيفة، وهذا يجعله فنيا أكثر لذلك نحن بحاجة إلى تعضيد فكرة الخط الفن، نعم ظهرت محاولات فنية فردية في مجال الخط منذ الستينات وما بعدها، محاولات للتعامل مع تراث هائل من فن الخط العربي وإعادة صياغته بشكل يتناغم مع الزمن ولا زال بعض الخطاطين لديهم الرغبة بالتطوير والتجديد وأزعم أن هذا التفكير هو المنقذ لفن الخط وتحريك ركوده عندها لا تستطيع التقنية الحديثة أن تنتج لوحة خطية فيها روحية الخطاط ذاته، بل يمكن أن تساعد التقنية في تطوير عمل الخطاط وهو بالأساس عمل يدوي كأي فن آخر قائم على الإحساس والمرونة في التنفيذ.
  • عرفني أكثر على مرتضى، آحلامه وآماله، ميوله خارج الخط والأدب.
أحيانا يكتشف الإنسان نفسه لا أقول متأخرا بل في منتصف الطريق، وهذا فيه من التعقيد الكثير، لا خيارات متاحة سوى الهروب إلى الأمام,
بالنسبة لي درست في كلية العلوم قسم الفيزياء وخلال دراستي الجامعية ومن قبلها أيضا كنت أتخيل أن الخط العربي هو هواية فقط ولم أتخيل أني سأحترف هذا الفن أو بمعنى أكثر دقة أن آخذ هذا الفن على محمل الجد لهذه الدرجة، لكن ميولي خارج الخط والأدب أيضا أفادتني جدا فأنا مغرم بالموسيقى بصورة عامة والموسيقى الشرقية على وجه الخصوص.
كما أن شغف القراءة الذي لا يفارقني منذ الطفولة والفلسفة والتاريخ والأديان والتصوف، الى جانب الأدب طبعا. لا أدعي أني صنف خاص من البشر أو ذلك الإنسان الذي يولد بمزايا خاصة وملكات تنبئ بفنان مثقف عبقري مختلف كما يصور البعض نفسه، بالعكس؛ عملت في مهن بعيدة عن الفن وحتى عن اختصاصي العلمي وهي مكسب معرفي واقعي كبير.
لدي صداقات لا أقول كثيرة لكنها منتقاة بشكل جيد ، أحب الصمت وأفضله على سماع الموسيقى أثناء العمل، بالنسبة للأحلام والآمال اكتشفت أن الطريقة المثالية للحلم هو أن نحلم بمدى قصير ذلك لأننا نعيش في عالم لا ضمانات فيه والثابت فيه متحول ومتحرك، فالأحلام بأمداء قصيرة قد تكون مناسبة. وبكل الأحوال أحلامي بعيدا عن المنجز الفني والثقافي هي بالحقيقة حقوق فردية لكل إنسان وأظن هذا هم مشترك في عالمنا العربي وما نقوم به هو محاولات لإثبات أننا نحلم فقط
قد يعجبك ايضا