لوحة حكائية عن الوخز والحب وأشياء أخرى

26 سبتمبر 2023
رند محمد قنب – كاتبة سورية
هكذا يولد الحب، شبيهًا بالوخز..
رفعت وجهها لترى طبيبتها تفرد أدواتها اللامعة فوق قماشٍ قطني، كانت تتأمّل حركة جفني الطبيبة فوق كمامتها الّتي بدأت تتحرك شهيقًا وزفيرًا: الضرس متضرر جدًا، سأبدأ بسحب العصب.
أومأت وجدان بإيجاب، فأمسكت الطبيية مبردها الأول لتبدأ بعملية الوخز لاستشعار مكان العصب. وخزت أول مرة والثانية، وهكذا حتّى توقفت عن تعداد المرات.
أنزلت الطبيبة كمامتها وبنبرةٍ رقيقة: هل أحسستِ بالألم؟
أجابت بجفاء بعد أن بزقت الدواء: لا.
توّسع محجرها بطريقةٍ سحرية تنم عن الدهشة ، وكم أغرمت وجدان فور رؤيتها للبحر الأزرق بعينيها، لتتابع الطبيبة الوخز، لكن هذه المرة بسرعةٍ أكبر، ومع كل وخزة بدأت وجدان تتذكّره بوضوح قائلةً في نفسها: أتذكّر عينيكَ بطريقةٍ مثيرة للغرابة المطلقة، وكأنها أمامي في هذه اللحظة!
أتذكّر أغنية لمحمد عبد الوهاب “بلاش تبوسني بعيني”.
قالت لطبيبتها: ما رأيك أن نخفف من حدّة توتري بسبب هذا الوخز اللعين ونقوم بوضع مقطع أغنية “بلاش تبوسني بعيني” ونجعل عبد الوهاب يعيد تكرارها. حملت عيناها علامات استصراد بعدما نزعت قناعها: عجيبة تلك أغنية والأغرب أنتِ!
حدّقت الطبيبة مطولًا بها، لتقول ممسكةً صورة الضرس المهمش: انظري، كان الضرس مكسور الحواف…
لم تسمع تتمة كلامها، بدأت أفكار وجدان المجنونة تعمل عملها في خيالها، فتخيلت هذا الضرس الّذي يوخز حياتها( ما قبل وما بعد)  الإنسان الذي يكتب، يحب سينما جان لوك ويمجدّها، يعشق أفلام جون بيير جونيه لنعومتها وتفاصيلها. يغبط كتابات ميلان كونديرا بشدة.
وجّهت الصورة تجاه الظل متخيلةً الضرس بأنه يمسك كاميرا سينمائية، كم كانت تحلم أن تكتب وتخرج فيلمًا يخصها!  وقالت بهوسٍ التخيل بأنَّ حوافي الضرس المهمشة تقطف الزهور الوردية، يحفظها بداخل ورق الجرائد، ينظر للأزهار بحب، يعددها كطفل ويرتبها، وتذكرت أنها ستقطف للآخر مرة تلك الوردة الزهرية.
كم كانت هذه الزهور عزائها بالفترة الماضية!  في حين كانت الطبيبة توخزها مرارًا وتكرارًا فتمنعها من عملية القطف، ولكنها لم تبكِ. حلمت كثيرًا بكلِّ زهرة رأتها في حياتها أن تهديه إياها مفكرة بمرح اللحظات بينهما، لتقول بصوتٍ متحشرج ينظر إلى المرآة المقابلة متحدثةً لها: لماذا على الرجل إهداء المرأة الورد، ستقلب الموزاين العرفيةإن حدث العكس؟!بزقت الدواء مجددًا موجهة سؤالها بطريقة راديكالية نسوية  بائسة :تخيلي معي أنَّ الإنسان عبارة عن وخزة حياته، وخزة حبه، وخزة…
طوقتها طبيبتها بذراعها الأيمن باكية مكملة خطابها بجملة وهي تمسح دموع طبيبتها ضاحكة: أن يعيش حبًا يشبه الوخز
اتجهت طبييتها لتغسل وجهها مكملة أفكارها بالصمت، وفكّرت وجدان أنها سترجع إلى منزلها للمرة الأخيرة  لتفتح حزمة الورد تلك، كم كان عددهم؟ هل ستجدهم بحالة الذبول؟!
غريب أمر ذبول الزهور والذي يبدأ بتموج اللون وبهتانه ثمَّ يتحوّل إلى الأصفر المطلق، هل ذبول الأشياء  جميل؟! هل سترمى آخر ذكرى قوضتها بيديها؟!
وجهت طبيبتها سؤالًا: منذ متى بدأ ألم الضرس؟
عدلت وجدان جلستها لتلوّح للأرض بقدميها، قالت بفلسفتها المعهودة: وهل يوجد بداية؟ لا يوجد شيء اسمه بداية، البدايات أوهام. وتذكرت بداياتها معه، النقية والصافية، لماذا تتذكر كل شيء اليوم؟!
أمسكت الطبيبة صورة الضرس مجددًا، رددت بداخلها أنَّ ضرسها يحيا حياتها القديمة، كم آلمها النظر للأشياء! أصبح تجاهلها للألم هو مفتاحها لتحيا، وتخيلت نفسها وهي تنتحر بالعيادة ليعيش ضرسها! أشاحت النظر عن الصورة مصوّبة نظرها تجاه الطبيبة:  كيف كنتِ تتحملين ذلك؟ لم أرَ بحياتي مريضًا يحمي آلامه بالسكوت عنها؟!
تذكرت دموعها التي كانت كقرابين تنهمر على سلمِ المنزل الذي ستفقده أيضًا، وارتسمت شفتاه الباكية التي كانت تريد رواية القصة عوضًا عني: لا أعلم.
اضجعت وجدان مجددًا على الكرسي، وقامت بتشغيل أغنية عبد الوهاب “بلاش تبوسني بعيني”. سألت الطبيبة منزعجةً من وقاحتها الجمالية: ما القصد من هذه الأغنية؟!
قالت وجدان بأنها سمعت مقابلة عبد الوهاب والتي شرح بها بأنَّ المصريين كانوا يخفون هذه القبلة لأنَّ معناها الوادع والفراق الأبدي. وضعت قناعها لتكمل عملية الوخز المتكرر، ومع كل وخزة كانت تحلم بقبلة عين من أجل الاجتماع لا الفراق، وتكسر ميزان عبد الوهاب، تحب عكس الموزاين لصالحها.
عادت للبيت لتحلظ الجدران نظراتها الأخيرة، كم أحبّت هذا البيت! لأول مرة تعشق المنازل! اتّجهت نحو شجرة البرتقال تقبّلها قبلةً بعينيها حاملةً بيديها مسودة لروايةٍ مبتورة تفكر بها كثيرًا… الشخصيات انتهت من حياتها قبل أن تتنهي بالرواية! وأولهم… هو.
بينما تعنُّ موشكةً على البكاء كاللحظة التاريخية،   يتحشرج صوتها، تصرُّ على الكتابة. تعلَّمت أن تكتب تحت كلّ الظروف، تحت الألم، تحت انهيار جدران المنازل الذي شهدته بطفولتها، تحت الضرب والتوتر، والآن تكتب باكيةً وخائفةً أن تلتفت لآخر ذكرى منها.
أسندت رقبتها على الشجرة للمرة الأخيرة متسائلة: هل من الممكن تكون الذكريات صوتًا أو صورةً؟! هل من المعقول أن تتكوّن الذكرى عن شخصٍ ما من دون اللقاء به؟! هل من الممكن أن نربط الأشياء المادية به؟!   هل وهل وهل…
كانت تربط الألوان والسماء به، وتذكرت من شهرين اشترت طلاءً أزرقًا للجدران، طلت جزءًا كبيرًا منها، لتنظر إليها كلَّ يوم  بكلِّ حالاتها عند الشروق والغروب ومنتصف الليل… ستنظر للجدران لآخر مرة، وكم أخافها ذلك!
حماه /سوريا
قد يعجبك ايضا