لا تكتب.. دعني أكتبها، كلمة واحدة! “مونولوج فجائعي”

13 يوليو 2023

أنس الغوري – كاتب سوري

 

أنسلُّ منّي، وأقابلني لنتحاور..

-لا تكتب.

-لِم؟

-لأنّه سيكون خلف الكلمة بُكاء وخلف الأخرى نشيج، وهكذا. ستُحيل ما تكتبه لمأتم جنائزيّ.

-لكن..

-لكن ماذا؟ بصوتٍ أوتاره تقطر دمًا ودمعًا، يقول: راغبٌ بالبوح! أُكنس خرابك إذًا بأقلّ الكلمات وبمباشرة كما حديث الشارع.

-يا ليت! لا أستطيع! حديث الشارع مُتخم بلغة السَبَاب، وأنا لم أتقرّاها بعد!

-لا تُتعبني بعنادك وجدالك! لن أسمح لك.

-أرجوك، أعطني إزميل “دانتي” الذي سرقته واتركني أكتب!

-لا، لن آذن لك. هل تريد أن تثقب قلب والديك وعائلتك وتترك ما بقي من ماء الحياة يسيل من داخله!

-لا، لا، لن يقرأوا كلماتي الخرائبيّة؛ هواتفهم قديمة لا تتيح لهم رفاهية تحميل أيّ موقع تواصل. أتوسلك، اتركني أكتب. إنّ الألم الفجائعيّ يحاصرني، يحفُّ جهاتي الأربع وينَصّب نفسه جهة خامسة يتسيّد الجهات بسلطته العمياء.

-لن تكتب. أبكِ

-مغاور الدّمع جفت! لستُ بشاعر ولا كاتب، كثيرون تَجَنّوا على الأدب، فلما تستنكر عليّ؟

-ستغتصب اللغة حتّى تكتب عن ذبح روحك، أعرفك.

صمت

صمت

صمت

-لِم أنت صامت؟ لِم تصغي؟

-بلسانٍ مبتور، أنادي من لا يجيء حتّى يكتموا زعيق فكرة الانتحار في أُذن عقلي.

-هذا ما يؤكد لي أن أحولَ دونك ودون الكتابة بأيّ ثمن. اسمع منّي، اذهب لإخوتك.

-إخوتي؟ قد كان لي إخوة قبل أن يُسَمّم ثديَ أمّي!

-إذًا، للأصدقاء المشرّعة أبوابهم.

-ليس لديّ أصدقاء، عندي دائنين!

-للكتب، أقرأ.

-لحظة، سأعدّها لك. بين يدي ثلاثة عشر كتاب أتنقّل بينها ولم أستطع الفرار، أقسم!

-حسنًا، أطلعني أولًا عن ماذا راغب بكتابته.

-عظيم! سأكتب بكلماتٍ عرجاء، عن قلق والدتي كيف ستؤمّن حفاضات والدي المشلول وعجزي رغم حراثتي القهرية لِماذا هو فوق إنساني. عن تمنّي يوم إجازة دون اقتطاع أجره لآخذ والدي نزهة بعد استبدال كرسيه المتحرك. عن الحلم بسرير بدل الفراش الذي التصق بالأرض وعن مضاعفة العذاب حين التقلّب. عن ألعاب الصغار عوضًا عن المصنوعة من الأخشاب وأغطية علب الكولا والأسمال. عن ملابس بدل تلك التي كفرت بالرتق. عن كُرة. عن طاولة. عن بيت مع غرفة زائدة تزوره الشّمس. عن قلقي من نهاية الشهر. عن خوفي من رسائل المؤجِّر. عن شهوتي للنوم والراحة. عن أسألتي ومناجاتي للإله. سأرتضي بهذا فقط، وأعدك أن لا تزيد العنعنة.

-يا إلهي! هل أنت مجنون بلا قلب؟

-قلبي صُلب في “عُرس الحلاج”. إنّ الألم يتوسد دمي. في مدار حياتي لا تتساوى الأضداد. كلّ من حولي رأوا في قلبي المصلوب “نّعابًا”. لذا، أرجوك اتركني أكتب عن ذلّ الألم.

-أبدًا. بعد هذا لن أتركك تكتب ولو سفحت كقربان ما بقي من ماء وجهك، هذا إن بقي!

-أقبّل قدميك الغائرتين في مملكة الطين، أتوسلُك! تُبتُ عن تصيّد الألفاظ، ولن أطلب الكتابة، لكن فكّ قيدك عن يدي الراعشة ولتكتب كلمتها الأخيرة.

-إذا كانت فعلًا كلمة واحدة فقط، اكتبها ولِترحل بعدها عنّي مثل نَعوة بصقها عمود نور.

-ببساطةٍ حادة، ومثل نصلٍ يهوي من ارتفاعٍ لقاع، أقول: تعبت.

قد يعجبك ايضا