14 سبتمبر 2023
حسان الحديثي – كاتب وناقد من العراق
كي لا أراك سأكون فيك.. هذه ليست فلسفةً مترفةً ولا ضرباً من اللعب على المعاني ولا استخداماً فظاً للمجازات، هي حقيقة فيزيائية لا يمكن نكرانها او التغاضي عنها.
نعم كل ما لا نريد رؤيته علينا ان نختبئ فيه.
لم تكن أجهزة الدلالة الجغرافية GPS ولا خرائط گوگل متوفرةً قبل عقد ونصف، وكان على السائق الذي يتجول في مدن أوروبا بسيارة ان يُتقن قراءة الخرائط الورقية كي يستدل على عناوين الأمكنة وإلا ضاع بين الأزقة والدروب.
هكذا كنت أفعل مع كل المدن؛ أشتري خريطة المدينة وأنا على مشارفها وأفهم طرقَها واتجاهاتها وعلاماتِ الدلالة فيها فتسهل حركتي وأنا أقود السيارة داخلها، إلا باريس، كنت إذا وصلتها وأنا اقود سيارة أطلق عيني في فضائها حتى تلتقط برجها الشامخ ذا الثلاثمائة واربعة وعشرين متراً، فأضعه مركزاً للدلالة الذي أنطلق منه صوب أي مكان أشاء، فيكون لي كالفنار الذي يدل ربابنة السفن صوب اليابسة ومرافئ الأمان.
ولكن علوَّه وإشرافَه على ما حوله وسهولَة رؤيته -أنّى كنت من ارض باريس المستوية- كل ذلك له أثر نفسي آخر على من لا يحب انتصابَ الجمادات وتفرعنَ هياكل الحديد وناطحات السحاب، فعلوُّه وشموخُه وشكلُه كسهمٍ عملاقٍ بقلب قوسٍ هائل موجهٍ نحو السماء، يبعث في القلب شيئاً من الضجر واحساساً بالانزعاج من تسلّط الأشياء على الأشياء وان كانت جامدة، سيما لمن لم تتعود عينه عليه.
هذا هو الإحساس الذي راود برنارد شو في إحدى زياراته لباريس؛ وكان مدعواً على عشاء بمطعم البرج في أعلى إيفيل حين قابلة أحد أدباء فرنسا فقال مرحّباً به: إنه من الشرف لهذا البرج العظيم أن يكون فيلسوفُ ايرلندا وشاعرُ انكلترا فيه.
فأجابه شو -وكان لا يحب برج ايفيل- قائلاً: انه المكان الوحيد الذي لا أرى منه هذا الهيكل العظيم!