كل الدروب تؤدي إلى الحب – جمال سامي عوّاد

24 يوليو 2023

جمال سامي عواد- باحث وكاتب سوري

 “كل الدروب تؤدي إلى الطاحون”، مثل شعبي معروف، يؤسس لمنهجيات عامة في مواجهة الحياة بالرغم مما قد يتضمنه من التعميم. و لكن بالرغم من اتصاف الأمثال الشعبية عامةً بالتعميم، إلا أنها تختزن و تختزل الكثير من التجربة الإنسانية  الثرّة، و تمررها إلى الأجيال عبر الزمن، و يمكن أن تختصر علينا الكثير من الجهد و الوقت و المال، و الدماء أحياناً، و ربما غالباً.

منطوق المثل بسيط، مختزل، مكثف جداً، لأن الجزء المسكوت عنه فيه، أهم بكثير من المنطوق، و ربما هو الجزء المقصود من المثل برمته، فالحقيقة غالية و ثمينة، ولا تعطينا نفسها مجاناً، بل يجب أن نسعى إليها ولا تسعى إلينا.

كل الدروب تؤدي إلى الطاحون، هذا صحيح،و لكن هناك دائماً درب واحد فقط هو الأفضل إذا اتخذنا المردود كمعيار أساسي، فمن المعروف أن أقصر الطرق بين نقطتين هو المستقيم، ولكن هل هذا الطريق هو الأفضل دائماً؟

ها هي ليلى قد ذهبت لزيارة جدتها من الطريق الأقصر و الأجمل (الأفضل بالنسبة لها)، متجاهلةً لنصيحة والدتها بسلوك طريق طويلة لا تخترق الغابة، لأنها الأكثر أماناً (الأفضل بالنسبة للجدة)، و كان يتوجب على ليلى أن تسلك تلك الطريق لتضمن سلامتها، وهو ما لم تفعله ليلى على كل حال، مما اضطرنا إلى التضحية بالجدة و الذئب لإعادة الأمور إلى نصابها.

لو ركب شخصان حماريهما، وانطلقا من نفس القرية، وقصدا الطاحون البعيدة، فقد يختلفان على الطريق الأفضل إلى الطاحون، إن لم يكن هناك درب قديم دَرَبه الآباء و الأجداد. و ذلك لاختلاف المردود الفردي بالنسبة لكلٍ منهما، و هذا أحد أهم أسباب الخلافات في القرية الواحدة، الدولة الواحدة، العالم الواحد. و بالتالي فإن أقصر الطرق للوصول إلى الحرب، هو إغلاق العين والأذن و القلب عن رأي رفيق الدرب بدون نقاش أو تمحيص أو تقليب.

يمكن لنا بعد هذا التمهيد أن نصوغ عدة نقاط  في الاختلاف يمكن أن تكون بحد ذاتها موضع اختلاف.

أولاً: الاختلاف حول أبسط القضايا المطروحة  حتمي، و هذا أمر يفرضه التباين بمستوى الثقافة والوعي والتجربة، والمصلحة، وهذه الأخيرة هي الأهم في حال تساوى المختلفون بالمجالات السابقة.

ثانياً: لا تطابق بين البشر، و لذلك سيبقى المتفقون، على حال مؤقت من الاتفاق حتى وصولهم إلى “عتبة الاختلاف”،عندها  سيختلفون حتماً بسبب تشعب مجالات التداول و التعامل واختلاف أهميتها بالنسبة لكل طرف.

ثالثاً: أي اختلاف، ينطوي على مقدار من التفاوت الكمي (لا النوعي) في صحة أو ملاءمة الرأيين بالنسبة للموضوع المختلف عليه.وبالتالي فإن أي اختلاف بين رأيين في موضوع محدد بدقة هو اختلاف شاقولي و ليس أفقي. فالقول بالاختلاف الأفقي يتضمن مساواة بالقيمة المطلقة بين عقلين أو منطقين أو ذوقين تعرضا لظروف يستحيل أن تتطابق، و بالتالي فإن رحلة التطور لكل منهما اتخذت مساراً مختلفاً سعياً إلى الوصول المستحيل للكمال. و الصحيح أنهما مختلفان لأن ظروف أحدهما شاءت أن أكثر قرباً إلى المثال ولو بفارق ضئيل.

رابعاً: بدعة “احترام  الرأي الآخر” هي بدعة مضللة و تخلط بين احترام “شخص الآخر” و احترام “رأي الآخر”، فالصحيح أن تحترم شخص الآخر  في كل الأحوال و بغض النظر عن رأيه الذي يقع ضمن الحدود المعقولة و المألوفة للاختلاف، و لا شيء يجبرك على احترام رأي تعتبره أنت مخطئاً. ولكن قد نعجز أحياناً عن الفصل بين الرأي و حامله، إما لأن إمكانياتنا العقلية لا تسمح بذلك، أو لأن الشخص نفسه متماهٍ مع رأيه لدرجة يصعب فيها الفصل.عندها سيعتبر أن رأيه هو شخصه، و أي تناول لرأيه، يعتبر تهديداً لشخصه.

خامساً: إن الاختلاف بجوهره صراع بين فكرتين، ونتيجة هذا الصراع منوطة بقوة الفكرة وملاءمتها، ففي النهاية ستقوم الفكرة القوية و الملائمة بطرد الفكرة الضعيفة كلياً أو جزئياً بعد أن تثبت أفضليتها بكافة مقاييس القوة الطبيعية.

سادساً: إن العناد والتشبث بالأفكار، يعود إلى خوف صاحب الفكرة من الفراغ، فراغ الشخص من الأفكار، الأسس النظرية، الإيديولوجيا، البرنامج..إلخ،  إذْ أن الفراغ هو المعادل الرمزي النفسي للموت. لذلك نجد أن أصعب الطرق لتغيير أفكار الناس هي القسر و القهر، لأن ذلك يستثير غريزة البقاء عندهم. و الحل الأمثل يكون بتوفير بديل ملائم لأفكارهم، يبعد عنهم وهم الفراغ (الموت) و يجنبنا دفاعاتهم الغريزية الشرسة.

سابعا: إذا اتفقنا على قاعدة “لا إنسان كامل”، فالمنطق و البداهة يفترضان احتواء رأيي و رأيك على نقاط خاطئة، لذلك فإن انفتاحي على رأيك هو التجلي الأكبر للذكاء الفطري لدي. فالإطلاع على آراء الآخرين و تقليبها في ذهني يوفر لي احتمالات القوة لفكرتي و إغنائها أو منحي فرصة إلغائها تماما إذا كانت الأضعف، و استبدالها بفكرة أقوى.وإن لم أفعل ذلك، فإني  مختار لا محالة الطريق الأسوأ إلى الطاحون.

قد يصل بعضنا إلى الطاحون قبل الآخرين، و قد يصل بعضنا متأخراً جداً، و قد لا يصل البعض أبداً، و بذلك يتجلى أمامنا التنوع اللانهائي والعبقري و الجميل وغير المتوقع للحياة. الحياة، تلك اللعبة التي لن تثبت قوانينها أبداً، وعلى كل لاعب يدخل إلى ملعبها أن يراقب، يتعلم، يكتشف، يفكر، يقاتل، يفاوض، يقاوم. عليه أن يفعل الكثير من الأشياء الجميلة و القبيحة، و لكنه أخيراً: سيصل إلى الحب.

قد يعجبك ايضا