تتواصل محاكمة المتهمين في قضية اغتصاب مازان التي خلفت صدمة بفرنسا حيث استأثرت باهتمام حقوقي وإعلامي كبير، ويستمر معها الجدل القانوني بشأن توسيع تعريف مفهوم الاغتصاب ليشمل الموافقة من خلال تكييف القانون الجنائي الحالي سدا لثغرات غالبا ما تستغل ضد الضحايا.
“نص خبر” ـ متابعة
أعرب وزير العدل ديديه ميغو عن دعمه إدراج عنصر الموافقة في القانون. هذا المفهوم، طالما كان محل جدل وانقسام بين التيارات السياسية وفي الأوساط القضائية، وكذلك في صفوف المدافعين عن حقوق المرأة.
خلال إحدى جلسات محاكمة المتهمين في قضية اغتصاب مازان نهاية شهر سبتمبر/أيلول الماضي بمحكمة أفينيون، سأل رئيس محكمة الجنايات في فوكالوز، القاضي روجي أراتا الضحية جيزيل بليكو حين مثولها أمامه، “هل وافقت على اختيار أحد هؤلاء الشركاء؟”، فأجابت المرأة السبعينية بانزعاج “مصطلح الشريك يثير اشمئزازي بشكل عميق (…) مرة أخرى، في الحالة التي كنت فيها، لم أكن في وضع يمكنني من الإجابة، كنت في غيبوبة”.
يُحاكم دومينيك بليكو، البالغ من العمر 71 عاما، و50 متهما آخر بتهمة الاعتداء الجنسي على جيزيل بليكو، بينما كانت مخدرة وفاقدة للوعي، في واقعة استمرت لمدة عشر سنوات.
ومنذ انطلاقها في 2 سبتمبر/ أيلول، تثير المحاكمة ضجة إعلامية كبيرة بسبب فداحة الوقائع، والمساحة التي استأثرت بها لدى وسائل الإعلام الدولية، ولكن أيضا بسبب الأسئلة التي تثيرها حول التعامل القضائي مع ملفات العنف الجنسي في فرنسا.
في قلب النقاش المحتدم حول تعريف مفهوم الاغتصاب، ينفي جميع المتهمين نيتهم الاعتداء على الضحية. بالرغم من الإقرار بوجود علاقة جنسية مع جيزيل بليكو، يصر دفاع المتهمين على أنهم لم يكونوا “على علم” بعدم موافقتها.
في هذا السياق، تقول عضو مجلس الشيوخ ممثلة الفرنسيين في الخارج والقيادية في حزب الخضر ميلاني فوغل “إن استغلال محامي الدفاع الثغرة التي تكمن في انتفاء مفهوم الموافقة في التعريف الجنائي للاغتصاب يظهر جليا تأثير هذه الفجوة”.
في 2023، كانت السيناتور نفسها قد قدمت مشروع قانون، لم يُعتمد، يقر بعدم وجود الموافقة كعنصر مؤسس للاعتداء الجنسي والاغتصاب.
نقاش مثير للجدل
على الرغم من دعم وزير العدل، لا تزال قضية الموافقة تثير توترا وانقساما في الوسطين السياسي والقضائي بفرنسا. “هل من دور القانون الجنائي فقط تعريف موافقة الضحية، بدلا من التركيز على تحديد مسؤولية الجاني؟”، تساءل الوزير السابق للعدل، إريك دوبون موريتي، في فبراير الماضي قبل أن يضيف موضحا، “المسؤول الوحيد هو المغتصب. والخطر الكبير هو فرض عبء إثبات الموافقة على الضحية”.
تعارض بعض جمعيات الدفاع عن حقوق المرأة أيضا هذا الأمر، مثل المجموعة النسائية المناهضة للاغتصاب. بالنسبة لرئيستها، إيمانويل بييت، فإن طرح سؤال الموافقة يرمي إلى “صرف النظر عن الضحية بينما ينبغي علينا التساؤل عن استراتيجية الجاني. المغتصب هو شخص يستمتع بإلحاق الأذى بالآخرين، وليس له علاقة بالجنس”.
في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعربت جمعيات معارضة لإدخال الموافقة في القانون عن انتقادها للخطوة فذكرت عبر بيان مشترك أن “النتيجة المعروفة لهذا الانزلاق هي أن سلوك الضحية قد يفحص بدقة. الكلمات التي قالتها، أو لم تقلها، والطريقة التي تصرفت بها، أو لم تتصرف بها”.
بعض المختصين، مثل الطبيب النفسي والخبير القضائي بول بنسوسان، يشعر بالقلق من خطر تعريف العلاقات الجنسية بموجب عقود قانونية، مما قد يثير مسائل معقدة حول مفهوم الموافقة إذا أدرجت في القانون الجنائي”.
“هل يمكن حقا تحويل المشاعر إلى عقود قانونية، وكيف يمكن سحب الموافقة الممنوحة في لحظة معينة، إذا سارت الأمور بشكل خاطئ؟”، يتساءل الطبيب في بيان نُشر بداية 2024 في مجلة لوبوان الفرنسية.
في المقابل، تميل نقابة القضاة إلى “دعم” إدراج الموافقة في القانون الجنائي، لكنها تحذر، “بمجرد أن نقبل بمفهوم الموافقة، ستبرز صعوبة أخرى، وهي خطر مواجهة نفس العقبات التي نواجهها مع العناصر الأربعة الحالية [العنف، المفاجأة، الإكراه، التهديد]، التي هي أيضا موضوعية للغاية وتفسيرها قد يتأثر بالتصورات الجنسية للقضاة”، كما تشرح نيللي بيرتراند، الأمينة العامة للنقابة.
تذكر الجمعيات النسائية -استنادا إلى دراسة لمعهد السياسات العامة- أن 94٪ من التحقيقات المتعلقة بالاغتصاب في فرنسا يتم حفظها دون متابعة، مقابل 85٪ بالنسبة للأفعال الأخرى التي تُرتكب ضد الأشخاص. ولكن، وفقا لنيللي بيرتراند، “فإن إدخال الموافقة وحده لن يغير الكثير في الممارسة. هناك عمل حقيقي يجب القيام به بشأن أساليب التحقيق في حالات الاغتصاب، بمعنى آخر، البحث عن الأدلة، لتجاوز الادعاء المزعوم ‘رواية ضد رواية’ وأيضا عدد الملفات الضخم دون متابعة”.
تقول إيمانويل بييت، رئيسة مجموعة نسائية مناهضة للاغتصاب، “في قضية مازان، أجرى المحققون عملا ممتازا، إلا أننا نلاحظ أن العديد من المحققين يستمرون في رفض تلقي الشكاوى. يجب أن نركز على تدريب رجال الشرطة والقضاة ونتوقف عن التشكيك في صدقية أقوال الضحايا”.
موافقة “حرة وواضحة”
تدرك النائبة فيرونيك ريوتون، التي شغلت رئيسة اللجنة البرلمانية، حول “تعريف الاغتصاب الجنائي” أن المهمة جد حساسة وتتطلب حذرا شديدا، وتقول: “لدينا تحذيرات من كل جانب. بمجرد أن نكتب شيئًا، نحن واعون أننا سنواجه ردود فعل قاسية”، تضيف المتحدثة التي تم استقبالها الأسبوع الماضي من قبل وزير العدل، “يعيد الوزير التأكيد على دعمه لعملنا، وفي نفس الوقت، ضرورة كتابة [القانون] بدقة متناهية. الأمر يتعلق بتعديل القانون الجنائي، لذا وجب أن نكون حذرين!”.
لتجنب الجدل، تدعو الخبيرة القانونية كاثرين لو ماغيريس إلى تعريف الموافقة باعتبارها “اتفاقا حرا (من دون إكراه) وواضحا. إذا لم يقل الشخص المعني شيئا، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أنه قال (نعم)، وبالتالي لا توجد موافقة. من لا يتحدث، لا يوافق. إذا قال الشخص (لا)، فهذا يعني (لا). وهكذا، نغلق الباب أمام العذر الذي يفيد بأن (لا) لم تكن جادة. أما بالنسبة للأشخاص الذين يقولون (نعم) ولكن تحت الضغط، فإننا نعتبر ذلك مطعونا فيه ولا يعتد به، لأنه ليس حرا ولا واضحا”.
تستشهد الخبيرة القانونية بحالة السويد حيث أثار إدخال الموافقة في القانون الجنائي نفس الجدل الذي تشهده فرنسا. اعتمد البرلمان النص في مايو/ أيار 2018، والذي ينص على أن أي فعل جنسي يُمارس دون مشاركة الطرف الآخر “بشكل حر” يعتبر اغتصابا. ونتيجة لذلك، زادت الإدانات بتهمة الاغتصاب بنسبة 75% بين عامي 2017 و2019، وفقا للمجلس الوطني للوقاية من الجريمة (Brå).
تقول المحامية السويدية أوليفيا بيوركلوند داهلغرن في تصريح سابق لصحيفة لوموند الفرنسية، إن “لتحقيقات أصبحت أكثر عمقا والشكاوى لا تحفظ بسرعة كما كان الحال من قبل”. “بالطبع، الإدانات مهمة” تضيف قبل أن تستدرك “لكن القانون له أيضا وظيفة تعليمية، حيث سيظهر أننا نريد تغيير العلاقات الجنسية بين الرجال والنساء، وأننا نهتم بضرورة تقاسم نفس الرغبات.”
مسار تشريعي معقد في برلمان منقسم
بالنسبة للبرلمانية الفرنسية ميلاني فوغل، فإن هذا التعديل في القانون سيمكن من تحقيق مكتسب قيم، تقول: “القانون الجنائي يحدد ما يصلح للمجتمع وما هو غير جيد. من خلال إدخال مفهوم الموافقة، سنغير علاقتنا بأجساد الآخرين من خلال اعتبارها محظورة ما لم يوافق أصحابها.”
وسط هذا النقاش المستمر والجدل القائم بين مختلف الفاعلين في الملف، يطرح سؤال طبيعة المسار التشريعي الذي سيتم اتخاذه، خاصة في ظل جمعية وطنية منقسمة بشكل حاد حول عدة مواضيع، آخرها مشروع قانون المالية. “الفكرة هي أن يؤدي التقرير المرتقب صدوره إلى اقتراح قانون من قبل لجنة حقوق المرأة وتكافؤ الفرص بين النساء والرجال بالجمعية الوطنية، فهذا سيكون أقوى من اقتراح صادر عن مجموعة برلمانية واحدة”، تشرح فوغل، قبل أن تضيف “نحن في وضع مشابه قليلا لإدراج الإجهاض في الدستور. لدينا برلمانيون متحمسون في كلا المجلسين، والحكومة تدعم، وهناك تعبئة شعبية كبيرة. إذا حدث التوافق، فقد يؤدي ذلك إلى نتيجة إيجابية.”
من جانبه، أكد مكتب وزير العدل المواعيد مع البرلمانيين المسؤولين عن المهمة الاستطلاعية. وحسب ما ذكرت مصادر مقربة من الوزير لفرانس24 فإن “التفكير جار حول الشكل الذي يجب أن يتخذه هذا الأمر”.