قراءة في رواية مكتبة منتصف اللّيل: القراءة ورهان ولادة الانسان الثانية

5 أغسطس 2023

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بسمة مرواني – كاتبة وناقدة تونسية

الروائي مات هيغ الالماني أثبت وجوده بتدبّره في حالات البشر وعالمهم وحقق انتشارا عالميا حيث فاز بعدة جوائز عالمية وقد تم العمل على تحويل عدد من رواياته إلى أفلام سينمائية. يعتبر أحد أهم الداعين للاهتمام بثقافة الصحة النفسية في العالم.

مكتبة منتصف الليل هي من فئة الروايات المعرفية/ النفسية كاتبها رغم حداثة سنه من مواليد السبعينات، روايته هذه ليست من المنتوجات الادبية المعروضة على واجهات المكتبات لتزيّنها أو تستعطف قرّاءها بل هي من الكتب النّوادر التى تشدّ قارئها لينجذب اليها، من يعتبر أن الكتب والمطالعة أكبر بكثير من لحظة مادية تطرأ.

طاف مات هيغ عبر مسارات كئيبة لكنها تبقى مكتنفة بالأمل وبالتفاؤل الفلسفي والإمكانات المنطقية منطلقا من الإحساس الباطن الى الإبداع السردي، الفني الروائي الكامل..

يتحدث مات هيغ عن أهمية الكتب وما تلعبه المكتبات في حياة الانسان باعتبارها بوابات تحيل الى بوابة النور الذي ترسله القراءات في حيواتٍ ترتفع فيها الذائقة الجمالية من خلال فعل التأمل. وكأنها قدر الانسان الرائع ليصل مرتبة سامية في مستوى التفكر والوعي والانسانية ،منها يتحقق الارتقاء والاختلاف والسمو ومعرفة الذات واستدلال على الطريق الصحيح. إنها التماثل مع المطهر دانتي ملاذ هؤلاء الذين يجدون أنفسهم عالقين بين الحياة والموت، ولا يعرفون تماماً في أي اتجاه يمضون. هؤلاء الذين تاهوا في جحيم الحياة المظلمة وغاصوا في الألم والوجع ولم يعثروا على وسائل جديدة ضد عمل الألم هذا ان كان الالم حسب الفكر النيتشوي -بوصفه أداة باعثة للفرح- المتعة التي يمنحها الـ”لا يقين”، الذي يلغي فكرة الضرورة والإرادة والتى هي في الحقيقة الا التناغم مع الكون ومع ما يرضي الذات وتحرير الارادة التى هي استرجاع الذات المسلوبة أو الولادة الثانية للإنسان.

فالبطلة نورا سييد التي فقدت كل جميل في الحياة، الثقة، الإرادة، الحب وضجّ رأسها بما لم تستوعبه روحها الشفافة الملائكية وما تحمل من صفاء وبياض آذاها عالم الرداءة الفكرية والسطحية عالم القرف من الكائن البشري العابث الهوبزي النزعة الانسان المتقلب المزاجي المسكون بالنرجسية المقيتة. حياتها أيضا مليئة بالتعاسة والندم. فشعرت أنها خذلت كلّ مَن حولها، وخذلت نفسها أيضًا. وبما أنها المهتمة بالفلسفة في دراستها. واعية بقيمة ذاتها المفكرة معترفة بحدود نفسها وانها الكائن الواعي منها التفكر الهادئ فأضفت معنى على حياتها وان تجعله مختلفا خارجا عن فكر القطيع والسائد .

رحلت لتعيش في مكتبة، أغلب الكتب فيها حول التفاؤل الفلسفي والإمكانات المنطقية التي تتيحها العوالم.. تعرفت في ذلك الفضاء على صديقتها المشرفة على المكتبة واتقنت الغوص في كتب حول تجارب تكريم الإنسان وكيفية امتلاك البصيرة أو تهذيب النفس وباب للإبداع وتنمية العقل بل أيجاد حلول لما تورطت فيه سابقا ولم تجد له المخرج وردات الفعل وكانت القارئة الجيدة لا تستسلم لما قرأت وتكتفي بالقراءة لأجل القراءة وإنما تولّد سقراطيا أسئلتها حتى تعي دلالة الاجابات التى حاول الكُتّاب حلها وتقديم رؤى تسنى للبطلة ان تستمتع بلذة الانتصار .

ان قراءة الكتب، هذا الفعل الرائع هو جوهر العقل البشري المحفز على البحث والمعرفة والادراك ، بل هو وسيلة الوصول الى حقل من حقول التوتر الاقصى للمخيلة على الصعيد العام حيث تؤدي الى معرفة مصائر الجنس البشري، عن الحروب عن ما يهدد البشرية من مخاطر، عن عالم يتحكم فيه من يتقن لعبة التحدي ويتفنن في الحفاظ على هيمنته أمام هشاشة العالم .

متعة القراءة الخالصة فرصة كبيرة ايضا للتخلص من أدران الشر والبشر لإدراك كيفية القضاء على الاثم وان هذا الاثم، الذي يلتهم البراءة وينهش الروح؛ هو بصورةٍ ما أحد مكامِن قوَّة الإنسان المفارقة للملائكية، وأنه إذا كان ظاهره العذاب، إلا أنه في باطنه وحقيقته أحد تجليات التكريم الإلهي؛ لمعرفة الذات وأن هذا يكمن في الترحال بين الكتب حيث يقع القضاء على الفراغ، القلق، التوتر، تحليل العقد النفسية، الحقوق المداسة، الغش، الخيانة، الغرور والنرجسية وهما موقد الحقد الأعمى وكل الاحساس بالنقص و أيضا تجليات الدّيستوبيا وقد تجلى إقرار الكاتب من خلال ترغيب السيدة إيلم، مديرة المكتبة نورا سييد، بأن حياة البشرية إنما هي قرارات يتخذها صاحبها، قرارات خاطئة يندم عليها ويتأسف على اتخاذها فيجد البدائل من خلال تجارب الاخرين.. وان في الكتب فقط طرق التصويب والتقويم فحين تقرأ تتبع حواسك، تستخدم عقلك، وتتوصّل إلى استنتاجاتك الخاصة تتوق الى آفاق ومجرات وعوالم كثيرة، تسمح لك رغم انعزالك وزنزانتك الصغيرة، بالسفر بين ثقافات وبلدان كثيرة وتسمع قصصاً عن أناس مثيرة وتعيش أحداثاً وفصولاً غريبة، تجعلك تضحك وتبكي وتنبهر وتخاف وتغامر وتعيش المخاطر، تندم، تبكي، تصمت ، تتجاوز وتعتب وتتعب وتهرب وتسافر صمتا وتأملا رغما عن ضيق مساحة غرفتك …

فمجموع الحكايات الباعثة للنزعة الشوبنهاورية وإلى الركون الى احساس التعاسة خرجت منها نورا حين عرفت كيف تتخلص من العلاقات السامة المؤذية وأدركت التجاهل سبب من اسباب الصفاء وان الا مبالاة فن لتتجاوز ظلم البشر وكدرهم وما سببوا من خيبات وخذلان أدركت انها نورا الجديدة بذات قويّة متصالحة متوازنة ناضجة بعقل وحكمة الفلاسفة ،لا تغريها السفاسف ولا تلتفت لصغائر الاشياء حولها. لها السيطرة على العقل، تجاوزت الضعف والسلبية، تغافلت عن الذين يلحقون الاذى ويبخسون القيمة ويجرحون المشاعر، من يقفون ضدّ الطّموح ويقلقهم الاختلاف والنجاح حتى رؤية السعادة في عيون من حولهم… تعلمت ان ذات الكائن البشري، لها عزتها لن يهدمها انسان إلا قبِل الانحناء وتعّود على التنازلات فينفض غبار ذلك ويقف وقفة الشامخ الواثق.


الروائي هيغ أراد أن يوصل فكرة الانتصار على النفس، على الخوف والكسل والأنانية والتّردد على الشّعور بالاّ قيمة، الشّقاء، الأخطاء، ان الاستغناء يعزز كرامة الانسان وينير دربه ويعي ان النّواقص عليه ان يتخطاها الا بفعل القراءة . حينها يتوصل الانسان إلى لا ما يختبره في حياته؛ ويجدر بالإنسان اذن تقديسها كما يقدس الله، وهي درجة عالية من درجات الاستغراق في التفكير، أي التأمل والتأمل مَلَكَة وهبة ربانية يؤتيها الله إلا للأصفياء والأنبياء.
رواية مكتبة منتصف الليل رواية لمعرفة الذات في أعماقها الحسـية واللاشعورية، تشريحها يستوجب أكثر من قراءة نقدية و بأدوات تختلف عن الأدوات التقليـدية المعروفـة في مجال النقد الأدبي أدعو محبي الروايات السايكولوجية  وكل المهتمين بلوثات البشر الجوّانية وردود افعالهم إلى قراءتها.

قد يعجبك ايضا