19 أغسطس 2023
راسم المدهون – شاعر وكاتب فلسطيني
المدهون يتذكر محمد القيسي
تلك الجملة الإفتتاحية من قصيدته الحزينة والرَشيقة “في انتظار الأغنية” ، تظلُ الأكثر حضورا في ذاكرتي من تجربته الشعرية الغزيرة . ربما لأنها تحيلني كلَ مرَة لصوت الشجن الذي جسَده الشاعر الراحل محمد القيسي منذ منتصف ستينات القرن الفائت في الشعر الفلسطيني .
قلت مرَة في منتصف السبعينات أنه “المغني الجوَال” ، وتلقف آخرون ما قلته ، بل ووضعه أحدهم عنوانا لكتاب أصدره عنه وضمَنه مقالات كتبها شعراء ونقاد عن تجربته ومن بينها مقالة لي كتبتها عام 1974 عن إحدى مجموعاته الشعرية .
محمد القيسي صديق التسكُع والضياع ، وهو ضياع حقا لأنه كما قال لي مرَة تسكُع بعيد عن المكان الحقيقي تأخذنا فيه أقدامنا إلى شوارع غريبة ، وهو الذي أحبَ من دنيانا ثلاث : فلسطين والنساء وعبور البلدان والقارات هائما وحاسرا إلا من روح الشعر .
موت أمير فلسطيني
نائم في رذاذ المساء حبيبي
نائم كأمير
أوقِدوا شمعتين ليصحو
أوقدوا شمعةً ليراني
نائم مثل زيتونة,
أو حصاة بلا حركهْ
نائم في الهلاك الأخير
نائم كأمير
نائم مثل نهر يغني
وتفلت منه البلاد
نائم ويداه علـى صدره,
تقطران أسى وعناد
لم يعش مثلما ينبغي أن يعيش
لم يبكِّر إلى الكرْم ذات صباح,
ولم يقطف الورد مثل محبّ,
ولم يأتني في الليالي الوحيدة,
إلا ليذهب.
إلا لينزعني من سريري ويذهب,
كان حبيبي,
أميري
وكان ليَ الناي والسنبله
نائم مثل روحي التي تعبت
دون أن تسأله
أن يعود إليّ,
ويرشق نافذتي بالأغاني
نائم في رذاذ المساء حبيبي
أوْقدوا شمعتين ليصحو
أوقدوا شمعة ليراني
من: قصيــدة الثــلاثــــاء
في ثلاثاء لم تأتِ بعدْ
كنت آخذها باتجاه البراري وتأخذني
باتجاهي
في ثلاثاء جاءت
شربتُ أغاني يديها
شربت البابونج حتى غفت يا إلهي
غفتْ
يا إلهي
غفت
واستفاقتْ
مياهي!
في ثلاثاء لم تأت بعدُ, ثلاثاء جاءت
ثلاثاء موزونة بالخططْ
امَّحت أول النقط
آخر السوسنات امّحى
والضحى
ورحيق المساء النبيذيّ
رمانها المتهدل بين يديَّ انتحى,
وامّحى
عنب المغرب المصطفى
عنب المغرب الذاهب الآن فينا,
الشفيفُ,
الرؤوفُ
الوقوف لدى الباعة القرويين عند المفارق
ثرثرة البعض منهم
حديثي عن الفرق بين السهولة والعمق
صمتي, ووشوشة العشب حين نمرّ
كروم الذهب
البنفسج والقبرات
انثيال سنابلها فوق تلّين من عسجدٍ
سلسبيلُ الشفاه
فواكه كل الفصول
شجار الظهيرة دون مناسبةٍ
عنفوان الزراعة, رقّتها
خضرة الكائنات وألفتها
عربات الطريق, المشاة
الندى المتساقط من أفق أهدابها
والسواد المضيء ,
السواد المغنِّي
السواد المطل على أرض منفاي بكراً
يظلل مشمشتين وأجسر في الوصف
تنسرحان إلى عنق من ضياء وعاج
المدى والسياج
حرقة العصفر الزعفران, وملمس ما لا
يُمَسُّ
نشيد الغريب امّحى
امحى, امحى,
امحى
ام,
م,
حى
حانة شبه منسية من قديم أتينا,
مقاعدُ زانٍ,
شموع
وعزف بعيد
وآس يؤانسي
فيا للقطوف, على مهلٍ كنت أجرع من ليلتي
وأَفِي..
للذي كان لا يكتفي
بانوراما شوارعَ أجهل أسماءها
نمنمات الأصابع,
حلم الرحيل لإسبانيا
والشفق,
والمرور الغنائي عبر النفق
ودعاباتنا تحت ضوء المصابيح,
أسئلة الشمس والظل والمنحنى
والفضاء الذي كان يوما وكان لنا
كل هذا امّحى