2 أوغست 2023
حاوره: هاني نديم
يكتب اليمني عبدالقادر صبري الشعر ويلحنه، تجربته غريبة وخاصة، إذ يؤسس لأغنية “الومضة السريعة والخاطفة، ويتجول بين النصوص والقصائد يحولها مرة إلى الطرب ومرة إلى الجاز ، مع روح الموسيقى اليمنية الطافحة من تلك الأغاني.
حاورته حول تلك التجربة الخاصة، سألته:
- بين الشعر والموسيقى، هل النغم يسري في دماء اليمنيين؟ حدثني عن علاقتك شخصيًا بالأغاني، وتجربتك مع شراكاتك الغنائية، وعن اليمن وموسيقاه وأغانيه المنهوبة؟
– السؤال يبدو سهلا، ولكنه ممتنع جدًا، والإجابة عليه تتطلب مباحث ومباحث، لكنني سأحاول الاقتضاب، مثلما أكتب أشعاري.
الشعر هو مبنى ذو معنى قائم على ثلاث: الكلمة والفكرة والإيقاع.. بمعنى، الكلمة الموقعة التي تحمل معنى، بما في ذلك قصيدة النثر وحتى قصيدة الومضة ، فحتى الصمت يمكن أن يعتبر إيقاعاً.
أما الموسيقى فما هي إلا آهة منغمة.
اليمنيون كشعب كادح محاط بكل عوامل الفناء، اختار البناء، وحول جحيمه إلى جنة، مستعينًا بالأغاني والأهازيج. فحين يزول الألم تتحول الأهزوجة إلى زامل، والأنين إلى أغانٍ من حنين.. وكان من الطبيعي أن يمتلك شعب كهذا إيقاعه الحيوي الذي يعكس تنوعه الضخم. هنا نعرج على موضوع ما تسمى سرقة التراث الغنائي اليمني من قبل الآخرين، أنا أعتبره تعلمًا وتأثرًا وإعادة إنتاج، ولكن يبقى الأصل هو الكلمة، الكلمة الفصل.
اليمنيون محاطون بكل عوامل الفناء، لكنه اختار البناء وحوّل جحيمه إلى جنة
علاقتي بالنغم هي علاقة تمردية.. فلقد تعلمت الموسيقى لكي أتمرد على شعري، لا لكي أطوعه لها. لذا حين بدأت تجربة التلحين، بدأت بقصيدة ليست لي، في أغنية “صرت ملاكًا الآن”، فهي من كلمات الشاعر الكبير الدكتور عبدالعزيز المقالح.. جزء من مرثية يرثي فيها المؤرخ اليمني محمد حسين الفرح، صديقنا المشترك، تناولنا فيها معاناة ضحايا مرضى السرطان والأمراض الفتاكة.
- حدثني عن العلاقة بين قصيدتك والجاز والمغني راي عسيري ورعد بركات وغيرهما
– تعاونت مع فنان الجاز اليمني راي عسيري، وواصلنا التعاون حتى وصلت أعمالنا المشتركة إلى العشرين أغنية، منها ما هو من ألحاني، ومنها ما هو من ألحانه، ومنها المشترك مثل قصيدة رجل الهباء.. ومن هذه القصيدة كانت نقطة التحول في تجربتي مع الملاحم الغنائية، حيث التقطها صديقي القديم/ الجديد الموسيقار العراقي رعد بركات، وصاغها في ملحمة غنائية مدوية بعنوان “وطن الهباء”، تناسلت عدة ملاحم هي “رجل الكواكب”، و”وهج الماء أو الأوراسية”، و”عطش الشهداء”، وهي قصيدة مهداة إلى أمهات شهداء ثورة تشرين في العراق، و”وقف الأنين”، وهي مستوحاة من معاناة ضحايا زلازل سوريا وتركيا، وأخيرًا “حلم الريل” القصيدة التي تتناول الاغتراب الروحي الداخلي والحنين الدائم إلى الأوطان. وبين يدي رعد قصيدة فلسفية وجودية هي “ذكرى أشباح العتبات” يصيغها بأسلوب أوركسترالي، أوبرالي. وكما تلاحظ فأعمالي الشعرية المغناة هي أغلبها رسائل إنسانية، والقضايا الكونية هي الهم الأكبر لشعري ومسرحي وكتاباتي، ويشاركني في ذلك أصدقائي المرهفون منهم، وهذا إفشاء لسر جميل في نافذتك الثقافية هذه. الموسيقار العالمي نصير شمة، قد أبلغني مؤخرًا أن لديه مشروعًا غنائيًا، وهو بصدد اختيار بعض قصائدي لمشروعه.
الموسيقار العالمي نصير شمة، لديه مشروعٌ غنائيٌ، وهو بصدد اختيار بعض قصائدي لمشروعه كما أبلغني.
تعاوني استمر مع فنانين من جنسيات مختلفة، أعتز بأعمالهم جميعًا، فلقد أنجز لي الفنان الفلسطيني الأردني نزار العيسى عدة أغانٍ منها “لم يكن مرورك هنا صدفة”، و”العيد وأنت”، و”التعويذة التاسعة”، و القصيدة التي أحبها كثيرًا “قبلة في وداع القلب”، من كلماتها:
“لم يَكُ يدري بأنّي سَقطتُ من الليلِ
مثلَ النَيازكِ
مثلَ نُجيمٍ صغيرٍ أضاعَ المسارْ
مثلَ أغنيةٍ هَبطتْ في الظلامِ
لتُلقيَ سراً على خَدِّ عاشقتينِ صِغارْ
قُبلةً لوداعِ الهَزِيعِ الأخيرِ
من القلبْ”.
تعاون معنا فيها الموسيقار العراقي الكبير عازف الكمان طاهر بركات.
الجدير بالذكر أن تجربة نزار تتميز بتصديه حتى للقصائد النثرية، كما نفعل عسيري وأنا، وليس فقط قصائد التفعيلة مثل تجربة رعد بركات. ولكي أكون منصفًا، هناك ايضا فنان وموسيقي سوري هو صديقي المرهف مروان دريباتي، قد أنجز اغنية غجرية سميناها “مقطع من أغنية غجرية”، تقول:
“أحبكَ حدَّ الإغماءةِ، قالت؛
وحتى مفاصل الوجع..
أراكَ كحلمٍ عصيّ ولا أفيق
أسامرُ تلك الأغاني الباكيات
لعلّي أراكَ بين الأنين..
وبين الوترْ..
ألوذُ بحُزني،
وبالصمتِ إذ تخنُقهُ الذكرَيات
احبُّكَ حدَّ الغيابِ..
وحدَّ الأنينِ..
وحدَّ الضَّجَرْ”
وكذلك أغنية من قصيدة ومضة: “لا تهب قلبك للعابرين سدى، العبور مهنتهم والهوى وطن لا يبارح ولا يبارح”
وبالمناسبة.. الأغنية الومضة هي تجربة شيقة قمنا بها عسيري وأنا، وتوجد لنا نسخة مختلفة عن هذه الأغنية، فضلًا عن أغاني ومضات أخرى مثل “لاح الرحيل”، و “قف في حضرة الشِّعْرِ مبَجِّلاً
الشاعرُ ذو الثياب المُهلهَلةِ
يحمل في جيبة قصيدةً مُهَندَمَةً
تَرَكَ عُوْدَهُ مشروخًا
و نَسِيَ جَنَاحَيهِ على طَرَفَيِّ القصيدةِ فَطَاااااارَت”.
و أرى مع رفاقي اللذين خاضوا معي هذه التجارب الموسيقية أن الاغنية التي تنبثق من قصيدة نثرية دون أن تنكسر تكون قادرة على التحليق اكثر
ومن خلال زيارة صفحتي على يوتيوب، بالإمكان الاطلاع على جميع هذه التجارب وأكثر.
https://www.youtube.com/@abdulkadersabri4068
وكنت قد كتبت هذه القصيدة أرثي فيها صديقي الشاعر المظلوم توفيق القباطي، قبل موته، توفيق كان قد أمضى أواخر أيام حياته ينام تحت السيارات وعلى الأرصفة في وطن مزقته الحروب.. وهذي إجابة على سؤالك هل الشعر مظلوم؟
نعم مظلوم ونصف، وأكثر من ظلمه هو الشعراء أنفسهم، الذين حولوا حديقة الشعر إلى مراتع للشلليات والشعر المهرجاني والشعر التلفزيوني، وأقصوا شعراء مرهفين انتهى بهم الحال مثل توفيق صاحب قصيدة “عام سعيد يا رنا البحر يذكرهم وينساني أنا”.
- حدثني عن عبد القادر خارج نصه
– عبدالقادر خارج النص.. يتيم لم يستطع تجاوز يتمه الذي يتسع يومًا بعد يوم بالفقدانات المتكررة. فأنا يتيم الأبوين ويتيم الأخوين ويتيم الوطن، فماذا عساي أن اكتب غير الوجع؟ ولست أدري هل أكتب عن تكرار الوجع أم عن وجع التكرار؟!
وفي كل الأحوال الشاعر، مظلومًا كان أم ظالمًا، مكلومًا كان أم ثالمًا، يبقى الشاعر شيطانًا وملاكًا، ولكن لا يُعرف أيهما يقول الشعر.
إذن، فالشاعر شيطان وملاك.
ويجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره، لأنه قد يضطر إلى كسر كلّ قوانين الكون، لكي لا يكسر كبرياء أنثى.
وتبقى تجربتي الشعرية محظوظة لأنها حظيت بتناولات واقلام نقدية مهمة مثل البروفيسور عبدالاله الصائغ من العراق والناقد علاء الحامد من العراق والكاتب احمد بوقري من السعودية والشاعرة وهيبة مهذبي من تونس والناقد الموسيقي تحسين عباس من العراق ومن قبل كتب عني الناقد اليمني عبدالله علوان والكاتب محمد مثنى إلى جانب الاب الروحي عبدالعزيز المقالح وغيرهم.
وأخيرًا كيف أعيش؟
أعيش في شمال ألمانيا في مدينة بناها اللاجئون الهولنديون قبل أربعمائة عام هربًا من الاضطهاد الديني، لذا عُرفت باسم مدينة التسامح، وتشتهر بالرقم ثلاثة عشر، ففيها ثلاث عشرة ديانة وقومية ولغة، وثلاثة عشر جسرًا.. الحياة فيها هادئة وفردوسية، ولكن حياتي صاخبة، لأن مكتبي داخل البيت، وأدير شركة لتسهيل الهجرة الشرعية إلى المانيا عبر عقود العمل أو مواصلة التدريب المهني.
نعم لدي أصدقاء كثيرون، ولدي أعداء أكثر، وأكبر أعدائي هم قصائدي ومسرحياتي، فأنا في دوامة دائمة للتغلب عليهم والخروج إلى الدائرة الأعلى.. نحو تحقيق المعادلة التي اسعي إليها دائما وهي ” قوة الصورة وسحر الكلمة ”
- ماذا عن الوطن والمنافي؟
– حين غادرت الوطن كنت ثريًا بأمي وأخي عبدالكريم وأخي علي والكثير من أصدقاء طفولتي.. الآن خسرت ما يربو على الخمسة وعشرين منهم، سبعة من داخل القلب، فصرت يتيم الأبوين ويتيم الأخوين، قل لي كيف ستكون العودة إلى الوطن حين يستحيل إلى شواهد وقبور؟!
ولهم أقول: ألم تشبعوا موتًا! فقلبي لم يشبع حزنًا عليكم؟!