25 سبتمبر 2023
أمامة أحمد عكوش – نص خبر
اعتلى الخشبة.. فعزفت عليها مساماته “الزّير”، وقف خلف المايكروفون.. فسجّلت له أروقة الإذاعة “شوبان” في أساطين النّغم، وقف خلف الكاميرا.. فأدار عدستها بجدليات “المكافأة، وطرابيش”، نزف قلمه.. فسطّر ورقه ورصدت عينه “شاري الهمّ، لوين، خوخ ورمّان”، وقف أمام الكاميرا.. منذ دوران بكرة “دولاب” نحو “ساري” وصولاً إلى “أحلام المدينة” .. هو الفارس رمَّاح، والقناديلي شوكت .. “رجل الفنّ الشّغوف به، الحضور الآسر، العقل والحب، الكلمة والحركة” .. هو الذي قال قبل كلّ هذا: “أنا ممثّل بفنجان وبدون فنجان”.
ولادة .. البداية
ولد طلحت حمدي كاكا في مدينة الزّبداني بريف دمشق، في الثّالث من أيلول/سبتمبر عام 1941 لأب كردي وأمّ من الجولان، وهو “ابن عائلة الأيوبي” من حي ركن الدّين الدّمشقي؛ كان في سنيه الأولى يعبر الطّريق من ثانوية الحكمة، مروراً بمبنى الإذاعة السّورية في شارع النّصر، ليتوقّف طويلاً أمام “مقهى بن عازار” المتاخم لمبنى الإذاعة، “شاهدت هناك روّاد الفنّ السّوري في الخمسينيات، مثل حكمت محسن، وتيسير السّعدي، وفهد كعيكاتي، هؤلاء كانوا أساتذتي في التّمثيل” هكذا وصف تلك الفترة في أحد لقاءاته؛ أوصلته مشاركاته في المسرح المدرسي، إلى كواليس فرقة “زهير الشّوا” المسرحية، إذ أدّى دور طفل بمسرحية “في بيوت النّاس”، حيث حفظ نصّ المسرحية كاملاً، ونقله إلى خشبة مسرح “دار الحكمة”، ليأخذه بعد فترة أستاذ الموسيقى في المدرسة “صميم الشّريف” إلى مبنى الإذاعة، كي يؤدّي دور “شوبان” في برنامج “أساطين النغم”، وأثناء خروجه من الاستديو، لمح في غرفة مجاورة حكمت محسن وتيسير السّعدي يشربان القهوة، فاقتحم مجلسهما وقال: “أنا ممثّل”، قرأ محسن فنجانه، وتوقّع له مستقبلاً مشرقاً، “طلب منّي حكمت محسن إكمال دراستي والحصول على البكالوريا “الثّانوية” أوّلاً، ووعدني أنّه سيأخذ بيدي، شكرته وقلت له: أنا ممثّل بفنجان وبدون فنجان” بهذه الكلمات نقل حمدي ما دار بينه وبين محسن في ذاك اللقاء، وأضاف: “بعد أشهر وجدت نفسي كومبارساً في تمثيلياته الإذاعية، التي كان المستمعون ينتظرونها بشغف، فقد كان هذا الممثّل النّادر أفضل من كتب عن الوجع الشّعبي إلى اليوم”؛ لتبدأ بعدها تجارب حمدي في العمل المسرحي الخاصّ، الذي ازدهر في سورية عبر الفرق والأندية الأهلية، بين ثلاثينيات القرن العشرين ونهاية الخمسينات، لتكون أولى مشاركاته في فرقة “النّادي الشرقي”، التي أسّسها نهاد قلعي عام 1958، وقدّمت مسرحيتها الشّهيرة “ثمن الحرية” في دمشق والقاهرة زمن الوحدة.
كفاح
هكذا بدأ العاشق للتّمثيل يتنقل بين الفرق المسرحية، إلى أنْ وصل إلى فرقة “العهد الجديد” في منطقة البحصة وسط دمشق، “كان المقرّ بناءً طينياً متهالكاً، فرمّمناه كي يكون مسرحاً، نقدّم على خشبته عيون المسرح العالمي” بهذه الكلمات استحضر ذكريات العهد الجديد، وتابع: “اختارت الفرقة نصّ آرثر ميللر “كلّهم أبنائي”، وبنت عليه تجربتها الأولى، لاقى العمل نجاحاً ملحوظاً”؛ كما أنّ ذات الفترة شهدت إعلان وزارة الثّقافة تأسيس المسرح القومي عام 1960، فتابعت لجنة متخصّصة بقيادة رفيق الصّبان أداء الفرق المستقلّة، واختارت بعض ممثّليها، كان حمدي أحد الذين نالوا رضى اللجنة، “لأنّي أجيد التّمثيل بالفصحى، فيما استبعد الصّبان ممثّلي العامية” هكذا قال حمدي غير مرّة عن تلك الحقبة؛ ولكن.. تجري الرِّياح بما لا يشتهي السَّفَنُ، فبعد أن انتظر الشّاب دوراً يفجّر من خلاله موهبته، فوجئ بأنّه كومبارس (ينطق جملة واحدة، أو يؤدّي دور شخص ميت)، فاحتجّ، ليعاقب بنقله إلى مستودع الملابس، إلّا أنّه لم يقدر على تحمّل ما آلت إليه حالته، فقدّم استقالته، وتوجّه إلى الإذاعة، ليصدر بدوره وزير الثّقافة قراراً بمنعه العمل في أيِّ من المؤسّسات الفنية الرّسمية، لكنّ مدير الإذاعة لم يتجاوب مع القرار، واعتمده مخرجاً إذاعياً.
“المساواة بأجور الحمير”!..
مطلع السّبعينيات.. استدعت وزارة الثّقافة السّورية رفيق الصّبان الذي كان قد استقرّ في مصر، وطلبت منه أن يخرج في دمشق مسرحيّة شهيرة للكاتب المصري ألفريد فرج، عنوانها “الزّير سالم”، وافق الصّبان، شريطة أن يؤدّي طلحت الدّور، “كان هذا الاختيار ردّ اعتبار لي، فعدت مجدداً إلى المسرح القومي” بهذه الكلمات عبّر حمدي عن هذه الواقعة؛ ومن ثمّ اختاره المخرج غسان جبري كي يؤدّي للتّلفزيون دور “عروة بن الورد” عام 1968، في تمثيلية تلفزيونية كتبها الشّاعر علي الجندي، وأخرجها جميل ولاية، “فوجئت بأنّ أجري لا يتجاوز 40 ليرة سورية، فيما صُرف لصاحب حمار ــــ كان جزءاً من ديكور العمل ــــ 400 ليرة، قلت لوزير الإعلام حينها: نحن الممثّلين مطلبنا المساواة بأجور الحمير” هكذا عقّب على هذا الدّور بأحد اللقاءات الصُّحفية، وتابع: “أجل كنّا نشتغل الحلقة التّلفزيونية الكاملة، والتي تستغرق معنا أياماً، مقابل القليل من الليرات”.
جبري .. كوكش .. موليير
كما شارك حمدي في الأعمال التّلفزيونية السّورية الأولى، فها هو جبري يدعوه مجدّداً إلى عملي “طبيب القرية” عام 1970، و “دولاب” عام 1971، “لم يكن هناك أدنى دعم للحركة الفنية، كانت كلمة فن تعني الكفر، كان لا شيء يعوّضنا خسائرنا مقابل الإبداع سوى محبّة النّاس” بهذه الكلمات استحضر حمدي بداياته التّلفزيونية، وأردف: “لم يحملنا شيء على ترك المهنة، فالإبداع يستوجب التّضحية، وهكذا مشينا لسنوات طويلة، يظنّنا النّاس أغنياء، وهم لا يعلمون شيئاً عن حالنا”؛ ها هي شهرة من بحث عن النّاس بكل ما أوتي من إرادة واجتهاد، تتبلور أكثر في مسلسلات علاء الدّين كوكش الذي اتخذه بطلاً لمسلسلاته في السّبعينيات والثّمانينيات، منها (ساري، التّغريبة الهلالية، الاختيار، وضاح اليمن، تجارب عائلية)؛ بموازاة ذلك.. فإنّ الحنين الدّائم إلى خشبة المسرح لم يغادره أبداً، ليعود له بعدّة تجارب عبر (مسرح القهوة، والمسرح الطّليعي)، الذي أسّسهما في السّبعينيات مع الكاتب أحمد قبلاوي، كما شارك حمدي الفنّان محمود جبر بعض مسرحياته تمثيلاً أو إخراجاً، وقال فيه: “محمود جبر هو موليير سورية”.
مسرح .. شاشة
المسرحي الذي قدّم عديد الأعمال على الخشبة، منها (بانتظار عبد الفتاح، أول فواكه الشّام يا فانتوم، الحافي يتكلم)؛ قدّم للسّينما عشرة أفلام، منها (لست متسترة، واحد + واحد، مقلب حب، الرّاعية الحسناء، الحب الحرام، الرسالة الأخيرة، دمشق يا بسمة الحزن، حسيبة)، ولعلّ أشهر أدواره السّينمائية دوره في “أحلام المدينة” لمحمد ملص؛ إضافة إلى أنّ جعبته التّلفزيونية حملت عشرات الأعمال، منها (نمر بن عدوان، السّيف، خلف الجدران، الطّويبي، نساء صغيرات، اللوحة السّوداء، أنشودة المطر، شرقيات، ليل الأسرار، نزار قبّاني، الهارب، صراع على الرّمال، أنا القدس، كليوباترا، الشّبيهة)، ومن أشهر أدوراه الدّرامية دوره “موفّق” في “دائرة النّار” لممدوح عدوان وهيثم حقّي عام 1988، ما استدعى النّقاد إلى القول: “أدّى حمدي هنا واحداً من أبرز أدواره، مع شخصية موفّق التي اقتبسها عدوان عن قصّة الرجل المعلّب لأنطون تشيخوف”، ودوره الفارس “رَمَّاح” في الملحمة الخالدة “غضب الصّحراء” لهاني السّعدي وحقّي عام 1989، “طلحت حمدي في غضب الصّحراء انتصر على ذاته، قام بأداء اختصر فيه الغضب والحكمة خلال حياته كاملة، كان مثالاً للفارس بكلّ ما للكلمة من معنى” بهذه الكلمات عبّر عديد النّقاد عن دوره هنا.
منتج .. مخرج .. مؤلّف
يذكر أيضاً.. أنّ حمدي أسّس شركة إنتاج، ووقف وراء الكاميرا، أنتج وأخرج عشرة أعمال، بدأها بمسلسلة “الدّنيا مضحك مبكي” عن قصص لحكمت محسن، تبعها بعديد الأعمال التي كتب بعضها صديقه عادل أبو شنب كـ “الزّاحفون”، ثمّ “المكافأة” عام 1989 لعمر قنوع، الذي أثار جدلاً واسعاً، إذ طرح فيه قضية التّعليم ومشكلات المعلّم، لتعترض عليه نقابة المعلمين، وترفع دعوى قضائية بحقّه؛ ومن أبرز الأعمال التي أنتجها وأخرجها، والتي أثارت جدلاً واسعاً أيضاً، مسلسلة “طرابيش” عام 1992، لعمر قنوع، الذي تدور أحداثه حول شخص فقير قام باستخدام طريقة جمع الأموال من النّاس وتشغيلها، حتّى أصبح رجل أعمال كبير، إلى أن أعلن إفلاسه في النّهاية؛ إلّا أنّ الهجمة الشّرسة لرأس المال على قطاع الإنتاج الفنّي في تلك الحقبة، أرغمت حمدي على إغلاق شركته، “شركات الإنتاج الضّخمة، ابتلعت كلّ شيء” حسب تعبيره؛ كما ألّف عديد المسلسلات، منها (لوين، شاري الهم، تل اللوز، المستجير، خوخ ورمان “الذي أخرجه أيضاً”)، وقال عن الأسباب التي دفعته إلى التأليف: “السّبب الأهم.. امتلاء السّاحة العربية الفنية بأعمال محايدة، تستقرّ على سطح المجتمع، وتبتعد كلّ البعد عن الغوص في أعماقه، إضافة إلى المسلسلات الدّرامية السّورية التي أصبحت تلجأ إلى الفانتازيا والحالات الافتراضية، وأنا لست ضدّها، لكنّي ضدّ تحويلها إلى ظاهرة على حساب وجود الدّراما الواقعية”.
“النّقطة النّاصعة البياض في تاريخ الدّراما”..
قنديل طلحت حمدي الذي كان يسير بعناية ودراية صوب ديمومة الاتقاد في سماء النّجومية، التي تجسّدت وأطلقت وهجها، معلنة أنّها لن تنطفئ وتخفت بعد الآن، اكتمل عبر دوره “شوكت القناديلي” في مسلسلة من خمسة أجزاء، لدياب عيد وهاني الرّوماني، بعنوان “حمّام القيشاني”، سلسلة أرّخت ثلاثة عقود من المشهد السّياسي السّوري في القرن العشرين، وأجمع حولها النّقاد السّوريون والعرب بالقول: “ملحمة درامية من أهمّ أعمال الشّاشة الصّغيرة عربياً”، بدوره قال حمدي بعد سنوات: “أرفض المقارنة بين حمام القيشاني وبين أي عمل بيئة شامية آخر، سواء من النّاحية التّقديمية أم التّوثيقية، حمام القيشاني هو “النّقطة النّاصعة البياض في تاريخ الدّراما السّورية والعربية”؛ ولدى سؤال “رجل الفنّ” كما أطلق عليه البعض، عن سبب رفضه المشاركة في أعمال البيئة الشّامية أجاب: “أرفض المشاركة في أعمال لا تخاطب العقل، ذلك أنّ معظم هذه الأعمال تعيد إنتاج التّخلّف، أبطالها حرّروا فلسطين من مقهى الحارة”، وعن سوية الأعمال الدّرامية في الألفية الجديدة، قال: “أغلب الأعمال بعيدة عن عذاباتنا وهمومنا الحقيقية، وتفتقد العمق، كذلك تفتقد الحامل النّهضوي، والخطط الاستراتيجية التي هي أساس نجاح أيّ عمل إبداعي”؛ ليكتفي بعدها “الشّغوف بالفنّ” كما أطلق عليه آخرون، بإطلالات متباعدة، منها مسلسلة “توق” لشوقي الماجري، وبعضها أعمال البيئة الشّامية – إلّا أنّها مشاركات قليلة – كما عاد للسّينما في “هوى” عن رواية لهيفاء بيطار وإخراج واحة الرّاهب، وفي الشّريط الإيراني “يوم القيامة” لأحمد رضا درويش.
زواج .. أبناء
في حقبة الفنّان الشّامل ما يزيد عن الـ 60 عملاً فنياً، الفنّان الذي قال فيه عديد النّقاد السّوريين والعرب: “طلحت حمدي في سبعينات وثمانينات القرن الماضي كان نجم العرب”، علاوة على أنّه حصل عام 2006 على “درع التميّز” من جامعة الدّول العربية. وعلى صعيد العائلة.. فقد تزوّج من النّجمة السّورية الرّاحلة سلوى سعيد، وشكّلا ثنائياً في الحياة والمهنة، إلى أن انفصلا، و”بقيا صديقين حتّى وفاتها، وعاش معها أجمل أيامه” حسبما قال، كما تزوّج من السّيدة إيمان هاشم، ولديه أربعة أبناء (أحمد، هفال، هيف، هيفين).
70 عاماً .. 70 ساعة
غادر نجم العرب سورية أواخر عام 2012 إلى الأردن، إلّا أنّ الرّجل الذي نبض قلبه لسبعين عاماً في سورية، لم يستطع الاستمرار في النّبض خارج أراضيها لأكثر من سبعين ساعة؛ فها هو طلحت حمدي يغادر الحياة في الرّابع من كانون الأول/ديسمبر 2012، جرّاء أزمة قلبية، بعد عام على رحيل أخيه الكاتب الإذاعي خالد الأيوبي، ليشيّع جثمانه من ركن الدّين، وليوارى الثّرى في مقبرة الشّيخ خالد.
“لن تنساه أو تتناساه”..
قال في عزائه الموسيقار سهيل عرفة: “طلحت حمدي اسم لا يمكن للحياة الفنية وللحركة الفكرية في سورية أن تنساه أو تتناساه، فهو صلة وصل بين الأجيال المتعاقبة على الوقوف أمام الكاميرا، له حضور آسر وخالد في الدّراما والسّينما والإخراج والإنتاج، أأسف لرحيله، ليس عندي ما أقوله عن إنسانيته، شهادتي مجروحة، لأنّها شهادة أخ بأخيه”، وقال الممثّل أحمد مللي: “هو رجل المهمّات الخارقة في الفنّ، صاحب القلم الذي إن كتب، سينزف ويجعل الورق ينزف، صاحب الرّؤية الثّاقبة في الإخراج، الكاميرا تشعر بالإحراج لدى وقوفه أمامها، هو هرم من أهرامات القول والفعل، العقل والحب، الكلمة والحركة”.