حجازي لعب أدوارًا مهمة كشاعر ومثقف – زينب فرغلي

27 يوليو 2023

د. زينب فرغلي – أستاذ ورئيس قسم البلاغة والنقد والأدب المقارن بكلية دار العلوم جامعة المنيا

عِنْدَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكْتُبَ عَنْ شَاعِرٍ عَظِيمٍ كَحِجَازِي تَقِفُ حَائِرًا لَا تَعْرِفُ مِنْ أَيْنَ تَبْدَأُ ؟ وَإِلَى أَيْنَ تَنْتَهِي ؟ سِيرَةٌ عَطِرَةٌ جَدِيرَةٌ بِالْإِعْجَابِ وَالتَّأَمُّلِ، لقد وصل إلى مستوى رفيع ومتفرد من الانجاز الشعري والنقدي، فَهُوَ اَلرَّائِدُ لِأَجْيَالٍ مُتَعَاقِبَةٍ ، يعد مِنْ أَبْرَزِ شُعَرَاءِ اَلْحَدَاثَةِ مُنْذُ أربعينيات اَلْقَرْنِ اَلْعِشْرِينَ وَحَتَّى اَلْآنَ ، فَمَا زَالَ حَاضِرًا فِي اَلْمَشْهَدِ اَلثَّقَافِيِّ اَلْمِصْرِيِّ وَالْعَرَبِيِّ دِفَاعًا عَنْ قَنَاعَاتِهِ اَلْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَدَبِ وَالشِّعْرِ مِنْ جِهَةِ وَبِقَضَايَا اَلْحُرِّيَّةِ وَالتَّنْوِيرِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى ، فَحِجَازِي لَيْسَ شَاعِرًا شديد التفرد أو ناقدا ذكيا فَقَطْ وَلَكِنَّهُ مُثَقَّفُ حَمْلَ رَايَةَ الفكر واَلتَّنْوِيرِ، وَقَدْ اِنْعَكَسَ هَذَا اَلدَّوْرِ عَلَى قَصِيدَتِهِ بَلْ عَلَى مَوْقِفِهِ مِنْ اَلشَّكْلِ اَلشِّعْرِيِّ مُنْذُ اَلْبِدَايَةِ وَلَعَلَّ مَعْرَكَتَهُ مَعَ اَلْعَقَّادْ كَانَتْ ذُرْوَةُ هَذَا اَلْمَوْقِفِ وبدايته في آن واحد، فهو شاعر غير مهادن صارم في طرحه. يكتب فيه قصيدةً عصماء متمردا على السابق والمسكوت عنه ورافضا للثبات والجمود، يقول: (من أي بحرٍ عصي الريحِ تطلبُهُ/إن كنت تبكي عليه ، نحن نكتُبهُ) فشعره محمل دائما بمواقفه ومبادئه التي تشغله وتأرقه، فهو من أبرز الشعراء المدافعين عن الحرية والتنوير، فقد كانت حياته رحلة بحث عن التحرر من مصر إلى باريس.

شُغل حجازي بالكلمة والرأي الحر في مجمل شعره، بل ويتخذ من الكلمة عنوانا لقصائده مثل قَصِيدَة المجد للكلمة ، وقصيدة دِفَاع عَنْ اَلْكَلِمَةِ التي يَقُولُ فيها:
(أَنَا أَصْغَر فُرْسَانِ اَلْكَلِمَةِ/لَكِنِّي سَوْفَ أُزَاحِمُ مِنْ عَلَّمَنِي لَعِبُ اَلسَّيْفِ / مِنْ عَلَّمَنِي تَلْوِينُ اَلْحِرَفِ / سَأَمُرُّ عَلَيْهِ مُمْتَطِيًا صَهْوَةَ فَرَسِي/ لَنْ أَتَرَجَّلَ / لَنْ يَأْخُذَنِيَ اَلْخَوْفُ )

1- قَدْ مَرَّ مَشْرُوعُ حجازي اَلْفِكْرِيُّ بِمَرَاحِلِ :
بدايةً من دوره في مسيرة الشعر الحر وأهم القضايا التي تناولها. فلا أحد يغفل دوره الريادي في تلك المرحلة، التي تجدد فيها شكل القصيدة على مستويات عدة: مستوى الإيقاع، والصورة، والرؤية الفكرة، فكل قصيدة من قصائده تحمل زخما فكرية. وعلى مستوى الموضوعات، تنوعت بين القضايا الاجتماعية والسياسية والفكرية، فقد انطلق مِنْ اَلْقَرْيَةِ إِلَى اَلْمَدِينَةِ، وَمِنْ اَلْمَدِينَةِ إِلَى اَلْمَدَنِيَّةِ ،تُجَسِّدَ قَصِيدَةً ( تَعْلِيقٌ عَلَى مَنْظَرٍ طَبِيعِيٍّ ) رُؤْيَةَ اَلشَّاعِرِ بَيْنَ اَلْمَاضِي وَالْحَاضِرِ، يقول:( فِي اَلْمَاضِي كَانَ اَللَّهُ / يُظْهِرُ لِي حِينَ تَغَيَّبَ اَلشَّمْسُ/ فِي هَيْئَةِ بُسْتَانِيٍّ/ يَتَجَوَّلُ فِي اَلْأُفُقِ اَلْوَرْدِيِّ/ وَيَرُشُّ اَلْمَاءَ عَلَى اَلدُّنْيَا اَلْخَضْرَاءِ/ اَلصُّورَةٌ مَاثِلَةٌ / لَكِنَّ اَلطِّفْلَ اَلرَّسَّامَ /طَحَنَتْهُ اَلْأَيَّامُ).

2- يقف الشاعر بين بساطة الماضي ورومانسيته وبين تعقيدات الحاضر وتحولاته الشائكة، فَدَاخِلَ اَلْمَدِينَةِ شُغَلَ بِمَشْرُوعِهِ اَلْقَوْمِيِّ وهُمُومِ اَلْوَطَنِ – وَنُطْلِقُ عَلَيْهَا ( اَلْمَرْحَلَةُ اَلثَّوْرِيَّةُ )- يُظْهِرُ ذَلِكَ فِي مَوْقِفِهِ مِنْ مَوْتِ عَبْدِ اَلنَّاصِرْ، فِقد فجر موت عبد الناصر التقنيات العالية للقصيدة الحجازية وفجر طَاقَاتِهِ اَلْإِبْدَاعِيَّةَ مِنْ تَوْظِيفٍ لِلتُّرَاثِ بِأَنْوَاعِهِ : اَلدِّينِيَّ وَالتَّارِيخِيِّ وَالْأُسْطُورِيِّ وَالشَّعْبِيِّ ، كما فجر طاقات الِلَّوْنِ وَالْمُوسِيقَى، بل وبالغ في حزنه حتى أنه َاسْتَخْدَمَ فِي رِثَائِهِ تِيمَة اَلْعَدِيدَ أو المراثي الشعبية. فِي قَصِيدَةِ اَلرِّحْلَةِ اِبْتَدَأَتْ، يقول: (كوني ندَى يَا شَمْس أَوْ غَيْبِيٍّ/ فَالْيَوْمَ يَرْحَلُ فِيكَ مَحْبُوبِي/ كَوْنِيٌّ نَدَى يَا شَمْس هَذَا اَلْيَوْمِ/عَيَّنُ اَلْحَبِيبِ اِسْتَسْلَمَتْ لِلنَّوْمِ) وكأننا نسمع صوت نائحة ترثي عزيزا. لقد وظف طاقات البحر الشعري ليصنع هذا الصوت النائح.
ويقول أيضا:
يَا أَيُّهَا اَلْحُزْنُ مَهْلاً * وَاهْبِطْ قَلِيلاً قِليلاً
اِسْتَوْطَنَ اَلْقَلْبُ وَاصْبِرْ * ع اَلْعَيْنَ صَبْرًا جَمِيلاً
أَيَّامَنَا قَادِمَاتٍ * وَسَوْفَ نَبْكِي طَوِيلاً

قال عنها رجاء عيد (استطاع الشاعر أن يغلف أبياته بموسيقى تزحف نغماتها على وهن وتراخ وكأنها شيخ قعيد لتحمل مع المعنى عبء الدلالة الشعورية ) فبين معنى الشعر وموسيقاه ارتباطاً حيوياً، فيحاول الشاعر من خلال موسيقاه أن يحمل من المعاني والدلالات مالم تستطع حملها اللغة . وقد حدد أليوت وظيفة الموسيقى في الشعر [ بأنها هي التي تمكن ألفاظ الشعر من تعدى عالم الوعي والوصل إلى العالم الذي يجاوزه حدود الوعي التي تقف دونها الألفاظ المنثورة].

وتيمة المراثي جلية في شعره، وهو ما جعل شعره أكثر إنسانية وهيمنة، ولعلها تتناسب مع الفجوة النفسية بين الواقع الراهن وتطلعات الشاعر وهواجسه، فمرحلة الناصرية وما بعدها كانت مخيبة لاماله وتطلعاته، فقد كتب قصيدة أغنية للاتحاد الاشتركي، ثم غير هذا العنوان بعد فشل التجربة الاشتراكية. وله العديد من المراثي لبعض الشخصيات التي أثرت في الساحة الثقافية، كرثاء المالكي مرثية لفرج فوده ولكارل ماركس لم يرث الأشخاص فقط بل رثا العمر الجميل باكمله. ولن ننسى مرثية لاعب سيرك ، مرثية لانطاكية وغيرها.

3- دوره الثقافي في الساحة المصرية والعربية

رافقت حجازي صورة توازي المتضادات من بداية رحلتة من القرية إلى المدينة، ومن المدينة إلى المَدَنية، فكما ساهمت القرية في صقل ونضج الشاعر والمثقف وهيمنة المشاعر الإنسانية ورسوخها في ذهنه ، كان للمدينة فعل موازي ،فُقْمَةُ اَلْمَدَنِيَّةِ عَاشَهَا فِي فَرَنْسَا وَكَتَبَ دِيوَانٌه ( أَشْجَارُ اَلْأَسْمَنْت) مليء بالمسائل الفلسفية والوجودية. ، نعم وفرت له تلك الفترة احتكاكا بالأخر وَتَوْسِيعَ دَائِرَةِ اِطِّلَاعِهِ عَلَى اَلثَّقَافَاتِ وَالْمَدَارِسِ اَلْأَدَبِيَّةِ وَالْفِكْرِيَّةِ اَلْمُتَبَايِنَةِ، فقد قدم سلسلة محاضرات عن الشعر العربي في القرن العشرين في كوليج دي فرانس، ترجم إلى العربية مجموعة أشعار مترجمة إلى الفرنسية ، ونقلها إلى العربية في كتاب (مدن الآخرين) ، ولكن ظلت الفجوة بين الحلم والواقع الراهن تتصاعد في دواوينه، ففي ( كَائِنَاتِ مَمْلَكَةِ اَللَّيْلِ ) ، يقول : ( آهٍ / كَيْفَ صَارَ كُلُّ ذَلِكَ اَلْحَسَنْ مَهْجُورًا \ وَمُلْقَى فِي اَلطَّرِيقِ اَلْعَامِّ \ يَسْتَبِيحُهُ اَلشُّرْطِيُّ وَالزَّانِي \ كَأَنَّنِي صِرْتَ عِنِّينًا فَلِمَ أُجِبْ نِدَاءَهَا اَلْحَمِيمَ اَلْمُسْتَجِيرَ \ تِلْكَ هِيَ اَلرِّيحُ اَلْعَقُورْ \ أَحَسَّهَا تَقُومُ سَدًّا بَيْنَ كُلِّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى \ إِنَّهَا اَلسُّمُّ اَلَّذِي يَسْقُطُ بَيْنَ اَلْأَرْضِ وَالْغَيْمِ \ وَبَيْنَ اَلدَّمِ وَالْوَرْدَةِ / بَيْنَ اَلشِّعْرِ وَالسَّيْفِ / وَبَيْنَ اَللَّهِ وَالْأُمَّةِ / بَيْنَ شَهْوَةِ اَلْمَوْتِ وَشَهْوَةِ اَلْحُضُورِ ) .

وَلَمْ تَخْتَلِفْ التجربة فِي ( أَشْجَارِ اَلْإِسْمَنْتِ ) عَنْهَا فِي اَلْمَجْمُوعَاتِ اَلسَّابِقَةِ ، بَلْ تَصَاعَدَتْ إِلَى زُرُوتِهَّا حَيْثُ اَلتَّهْمِيشُ وَالنُّضُوبُ وَالتَّصَحُّرُ ، وَتَبَرُّم مَرِيرٍ بِمَسَارَاتِ اَلْحَضَارَةِ اَلْإِنْسَانِيَّةِ وَمَآلَاتِهَا ، فَقَدْ بَاتَتْ اَلْمُدُنُ أَكْثَرَ قَسْوَةً وَلَا مُبَالَاةَ فَالْجَدْبَ يُسَلِّمُنَا إِلَى جَدْبٍ أَكْبَرَ وَالْعَطَشِ لَا يُسَلِّمُ إِلَّا لِعَطَشِ أَكْبَرَ ، فِيرِي اَلشَّاعِرٌ اَلْمُدُنَ فِي زَمَنِ اَلْجَدَبِ وَالتَّصَحُّرِ اَلْفِكْرِيِّ أَشْجَارً مِنْ اَلْأَسْمَنْتِ ، يَقُولَ : ( وَهَذَا شَجَر اَلْإِسْمَنْتِ يَنْمُو كَنَبَاتِ اَلْفِطْرِ \ يَكْسُو قِشْرَةَ اَلْأَرْضِ \ فَلَا مَوْضِع لِلْعُشْبِ \ وَلَا مَعْنًى لِهَذَا اَلْمَطَرِ اَلدَّافِقِ فَوْقَ اَلْحَجْرِ اَلْمُصْمَتِ \ لَا يَنْبُتُ إِلَّا صَدَأ \ أَوْ طُحْلُبًا دُونَ جُذُورٍ)

وبعد عودته إلى أرض الوطن لعب دورا ثقافيا بارزا، فهو رائد للحركة الثقافية العربية، وهو مؤسسة لا مثيل لها في تبني وإنجاز مشروعات مهمة ورائدة، ومواقفه الحياتية تشهد بذلك، لقد قدم للثقافة العربية عملا اسهم في نشأة جيل أخر من الرواد، وهو تأسيس مجلة إبداع، والتي خرج من عبائتها جماعة إضاءة وهم حسن طلب ، رفعت سلام ، حلمي سالم .
كما اسهم في إغناء المكتبة العربية بأرفع الترجمات لمجموعة من القصائد المترجمة إلى الفرنسية وقام بترجمتها إلى العربية .
وَلِأَنَّ حِجَازِي شَاعِرِ مُثَقَّفِ مُفَكِّرٍ مُسْتَقِلٍّ يَعْتَزُّ بِشَخْصِيَّتِهِ حَمْلَ اَلرِّسَالَةِ وَأَدَّى أَمَانَتَهَا فَأَحْدَثَ زخَمًا ثَقَافِيًّا أَضَاءَ بِهِ اَلْأَوْسَاطُ اَلثَّقَافِيَّةُ فِي تِلْكَ اَلْمَرْحَلَةِ.

تجربتٌهُ الشعريةٌ والفكريةٌ مازالت مستمرةً تثمرُ وستثمرٌ ما دام يودي دورُهٌ التنويري كشاعر مثقفٍ ويدركُ قيمةَ هذا الدورِ.

قد يعجبك ايضا