23 يوليو 2023
حاوره: هاني نديم
أرسل لي د.طارق الطيب الحوار من الطائرة المتجهة إلى مهرجان الشعر العالمي في مديين، فوصلت الأحرف ملتصقة ببعضها، وظللت أفككها طيلة اليوم حتى لا أرهقه في سفره بالإجابة مجدداً.
طارق الطيب بالنسبة لي، نموذج يحتذى لصورة المثقف العربي، يكتب بأكثر من لغة ويحاضر في أكثر من جامعة، ويعمل على المقاربات الثقافية بين أصقاع الأرض، نشيط يكتب الشعر والرواية والنقد، نال الدكتوراه في العلوم الاجتماعية والاقتصادية عن مبحث بعنوان: ”نقل الأخلاق عن طريق التكنولوجيا – الصراع بين الهوية والربحية“. ويعمل حاليًا كمدرس ومحاضر في جامعة جراتس في النمسا. كما دخلت روايته مدن بلا نخيل على مقررات الليسيه الفرنسية للمرحلة الثانوية.
شارك الطيب بشعره وسرده حول العالم، وفاز بالعديد من الجوائز والتكريمات، سألته:
– في ظني أن الترحال ثقافة مضافة، وربما وعيتُ منذ أول ترحال لي أنني أنا الضيف المتحرك المتغير، وأن كل مكان أمرّ به هو الثابت، وكذلك أهله هم المقيمون. مع الوقت استوعبتُ أيضا ضرورة نفض الأفكار البائتة المسبقة عن ذهني، تلك التي تتعلق بالمكان والناس وعاداتهم وتقاليدهم.
تقييمي لعلاقة العالم مع الأدب العربي سيكون مقاسها أوسع مني. يمكنني أن أدلي بدلوي في بعض بقاع العالم التي زرتها وتعايشت مع ثقافاتها.
ثمة اهتمام بالعالم العربي وشغف به، وثمة أحكام مسبقة خاطئة، مفرطة أحيانا في إيجابياتها ومجحفة كثيرا في سلبياتها. كما أن الطلب على ثقافة “الإكزوتيك” من الغرب ما زالت قائمة وسوقها رائج في العرض والطلب.
لست معنيا بتصحيح الصورة الخاطئة التي نخلقها بأنفسنا ونورط حالنا وحال العالم بها، كما طُلب منا مثلا بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001، فهذا أمر معقد وملتبس ومؤقت، كما أنني لست داعية ثقافي! فالثقافة ليست دينا ولا إلزاما. العالم يود أن يتعرف علينا ليس للحضن والمصافحة والقبلة، العالم يرغب في استجلاب معرفة ما يضيفها إلى معرفته.
بنصٍ قصير يمكنك أن توجّه العالم نحوك، نصّي حمل حيرة الإنسان والمشاركة في قلق قوته وضعفه؛ نصي حمل الإرث الإنساني الصادق فيك.
الفن له قدرات علاجية لا يستهان بها في ما تخفق فيه السياسة، لكن من يستعين بالفن الخالص وتلك القوة الساكتة! محاولات إرسال بعثات ثقافية غير حرة مبشرة بالحاضر المهيمن البليد لن تفيد إلا المهيمن المؤقت.
المعنيون بنا -كعالم عربي- ثقافياً وحضارياً بالتواصل الحقيقي وبفهم أن الحضارة لا تتجزأ، هم قلة لكنها كافية كجذوة لا تبلى. أما المعنيون بنا سياسيا-ليس بهوس المؤامرة وإنما بصورة المصلحة الأنانية- فهم كُثّر وهم أُسّ البلاء في هذا العالم.
لو بقيت في مكاني لتآكلت روحي، فالطموح بحياة كريمة وبحق حلّق بأمنيات شاب متخرج حديثا تهدمت كلها
- لولا جهودك الفردية، هل حققت ما حققت؟ ينقصنا المأسسة والتدافع الجماعي أليس كذلك؟ كيف تقرأ معي المشهد العربي الثقافي؟ نواقصه تحدياته عيوبه حسناته؟
– بعد ربع قرن حافل بالأهل والأصدقاء والأحباب والتاريخ والعزوة والونس في القاهرة؛ اخترت السفر والنأي بعيدا، في لحظة كنت محقاً فيها ولم أندم عليها. وهي حكاية طويلة ليس مكانها هنا الآن.
لو بقيت في مكاني لتآكلت روحي، فالطموح بحياة كريمة وبحق حلّق بأمنيات شاب متخرج حديثا تهدمت كلها، تعقدت كل السبل وكان “النأي” كما أحب أن أسميه هو الحل، فأصبح البحث عن “الحياة” من جديد على أرض غريبة أهون بكثير من محاولة الحفاظ على كيس الرمل المثقوب الذي ينز بلا هوادة وبلا أمل في رتقه.
صارت محاولة جمع الرمال من جديد حبة حبة هي الأكثر فطنة، وهكذا كان العلاج، في صمت وبلا ضجيج وبثقة وجرأة و”بشوية استبياع” كما نقول في مصر.
جهودي الفردية هنا في الغرب دعّمها احتوائهم لي، وكانت في نواحٍ ثلاث: الأولى علمية، باستكمال دراستي العليا التي انقطعتْ فجأة في مصر، وبعد ذلك عينوني أستاذا في أكبر جامعاتهم، والثانية أدبية بنشر أعمالي إلى الألمانية وجعلوني أمثلهم في كل أنحاء العالم ومنحي ما لم أتوقعه، أما الثالثة فكانت رغبتي الصادقة في سبر أغوار هذا المجتمع النمساوي وتاريخه وعقله، بدءاً من باب اللغة حتى نوافذ التجوال في مدنه وأريافه وغاباته، وحرصي على أن تكون لي حديقة صغيرة في جناته.
- ينقصنا المأسسة والتدافع الجماعي أليس كذلك؟
– في فيينا قبل أربعين عاما جربت التواصل مع بعض الجاليات العربية، السودانية والمصرية تحديدا. ما طمحت إليه لم يشفِ غليلي، من تواصل وانفتاح مع البلد الذي نأيتُ إليه. معظم الجاليات هنا منغلقة في حدود أوطانها حتى النخاع. صار أهل الجاليات يتحدثون إلى بعضهم البعض دون أن يسمعهم أهل البلاد.
نعم يا صديقي ينقصنا المأسسة التي تتعلم من الوجود على الأرض الجديدة، وبالطبع دون انقطاع عن الأصل والأهل والتاريخ فهذا من نافل القول. لكننا ننقل إلى هنا أفشل التجارب العربية في شكل نماذج بائسة.
لست يائسا، فالجيل الثاني والثالث هنا لديه وعي أكبر من وعي الآباء والأمهات ولديه ارتباط حتمي بالمكان الذي يعيش فيه. أرى أن القادم منهن ومنهم أفضل بكثير مما قدمنا نحن.
- كيف تقرأ معي المشهد العربي الثقافي؟ نواقصه تحدياته عيوبه حسناته؟
– نعيش أياما معتمة من الدماء والقتل والسطوة والتباهي والغباء في صورة تدّعي الوطنية، ونرزح تحت هيمنة بليدة تسعى لكسب كم أكبر من الحملان؛ وقود الرفاهة.
المشهد العربي الثقافي يعاني، والمثقف الجاد غير المتورط في شرك السلطة أصبح مُبعد او محسوبا على خانة المعارضة. الآن وصلنا إلى حضيض بشري يبزغ فجأة في الأفق بهذا الشذوذ، ولا يتورع في حرق أخضر بلاده وتدمير يابسها من أجل لذة السطوة العبثية تلك. فلننظر إلى السودان بلد الخير و”الطيابَى” وقد صار تنينا برأسين وجسد واحد مسكين.
نواقص المشهد العربي لا تُعدّ وتحدياته لا تُحصَى. عيوبه حدّث ولا حرج، أما حسناته شحيحة فهي جادة وجذوتها قادرة على حض شعلة العودة للنهوض من جديد.
وأكرر، لست يائسا، فالجيل الثاني والثالث هنا لديه وعي كبير ويفهم تحمّل المسؤولية، والقادم منهن ومنهم أفضل بكثير مما قدمنا نحن.
- بين الرواية والشعر والترجمة والعمل الأكاديمي، كيف تتنزه في تلك الطرقات ومن أين إلى أين؟ كيف علاقتك مع كل مما سبق ذكره؟
الرواية والشعر والترجمة والعمل الأكاديمي تمر كلها من طريق واحد داخل العقل. تأثرت بالتأكيد خلال أربعين عاما بالأجواء الأدبية والفنية هنا في فيينا بشكل أساسي وببعض مدن العالم الواسع. ربما تأثرت بقرب الفنون من بعضها البعض بشكل عملي وتضافر طبيعي ويسر، فأصبحت مثلهن ومثلهم لاأفرق بتلك الصرامة بين الشعر والرواية على سبيل المثال. المنتج في النهاية مختلف ومؤتلف في آن. والعبرة على كل حال بجودة النص المنتَج.
ارتكاب الرواية والشعر والقصة والعمل الأكاديمي طريق سبقني فيه كثيرون عربياً وعالمياً، ولا أشعر فيه بمزيّة ولا بطولة. قد تكون صنوفا مختلفة بسبب تقسيمنا الأزلي والمستمر للعمل الكتابي، وربما أكون مختلفا في اعتقادي حين أرى أن الشعر ليس وحده الأعلى من بين الفنون، وليس هو الوحيد القادر على مس النفس بطاقة أعلى وبإدراك منفرد للأحاسيس الغامضة، لربما الموسيقى تفعل ذلك بشكل أسرع، وربما السينما عبر حكمة البصر، وربما الرسم والنحت والمسرح وغيرها. للفنون كلها طرق سرية متعددة ومتنوعة في الإبداع والتلقي.
فيما يتعلق بالترجمة فالأصل فيها هو مهمتي الأكاديمية منذ 19 سنة كمحاضر لمادة (تقنيات التحليل والترجمة) للمستويات العليا من الألمانيةإلى العربية بجامعة جراتس (عمرها يقترب من500 سنة).
ترجمتي لنصوص أدبية يندرج تحت باب محبة نصوص بعينها أو كُتّاب بعينهم، وقد ترجمت نصوصا قليلة لكاتبات نمساويات ولكتاب نمساويين منذ سنوات بعيدة مثل فريديريك همايروكر (1924-2021) وهي أشهر وأهم كاتبات جيلها، وكريستيا نلويدل (1957-2001) وجيرهاردكوفلر(1949-2005) وغيرهم.
أحببت تعبيرك (التنزه بين الطرقات)، فالأمر بالفع نزهات أدبية وفنية وعلمية، وإن كنت أيضا هنا لا أفرق بين الذهنية الإبداعية فيها.
في ربيع العام القادم سأتحرر من العمل الأكاديمي الذي مارسته لسنوات طويلة في ثلاث جامعات في النمسا بالتقاعد المريح، وسيسعدني أن أنجز بعضا من الكتابات التي انتظرتني بصبر، وسأسعد بالحديقة التي تفرح بمحبتي للأرض وللزراعة والبستنة فيها، وأتمنى أني سمح الوقت والعمر باستكمال السفر للقاء صديقات صافيات أحبهن وأصدقاء أصفياء أحبهم، وأنت منهم ياهاني.
التوقيع: طارق الطيب
في الطائرة من أمستردام إلى بنما