13 سبتمبر 2023
جمال سامي عواد – كاتب وباحث سوري
لو سألنا 100 شخص عن أسباب الحزن في الأغنية العراقية، لأجاب 99 منهم إجابة شائعة جداً فحواها أن هذا الحزن مرتبط بالتاريخ العراقي الدموي، أو بتأثير أحداث تاريخية محددة كانت سببا رئيسياً لذلك. و قد يضيف بعض الأكاديميين أسباباً أخرى تتعلق بالكوارث الطبيعية كفيضانات نهرين عظيمين في المنطقة، و التي سببت حزنا هائلاً استمر عبر الزمن و تسلل إلى الأغنية العراقية. فهل الحزن العراقي يعود بالفعل إلى هذه الأسباب؟
قبل كل شيئ يجب أن نعرف أن الموسيقى و الأغاني الحزينة، لا توجد فقط في الثقافة العربية عموماً و العراقية خصوصاً. بل هي جزء مهم من الثقافة الموسيقية عند معظم شعوب العالم. فالأغاني الصينية والكورية مثلاً تركز كثيراً على حزن الانفصال والحب الأبدي. و رقصة التانغو التي نشأت في الأرجنتين ليست مجرد رقصة جسدية عادية،لكونها مرافقة غالباً لكلمات مأساوية جداً. و هناك أيضاً أنواع موسيقية معينة حول موضوعات الشوق والفقدان و اللوعة و التفجع في الكثير من الثقافات مثل “الفادو” من البرتغال، و “المورنا” من الرأس الأخضر، “البلوز” عند الأفارقة الأمريكيين. هذا إذا تجاهلنا الإشارة إلى تورط الموسيقا في انتحار الكثير من الأشخاص المنتمين إلى تيارات موسيقية فرعية مثل موسيقا EMO.
و بمراجعة بسيطة لتاريخ كل الشعوب و الحضارات على وجه الأرض، سنكتشف أن الظروف التي نعتبرها سبباً لحزن الأغنية العراقية، تتشابه لدرجة غريبة مع ظروف الحضارات القديمة و الحديثة. فكل الأماكن التي شكلت بؤراً حضارية تعرضت للحروب و النزاعات الدموية المتوحشة على السلطة، و تعرضت لأطماع التجمعات البشرية المجاورة أو البعيدة و قد أدى ذلك إلى حدوث ما لا يمكن تخيله من الوحشية، ينطبق ذلك على العالم من الشرق مثل الهند و الصين و اليابان، وصولاً إلى الغرب حيث اوروبا و أمريكا و بريطانيا. إضافة إلى أن هذه الأماكن تعرضت لكل انواع الكوارث الطبيعية بحكم وجودها على نفس الكوكب المعرض دائماً للأعاصير و الفيضانات و الأوبئة و الزلازل و البراكين.
و للوصول إلى الأسباب الحقيقية لتميز الموسيقا العراقية بتلك الميزات، يجب أولاً ان نعرف القليل عن عاطفة الحزن بحد ذاتها، ثم نربطها تاريخياً و ثقافياً بشعب ما بشكل موضوعي.
لو دققنا بعاطفة الحزن ذاتها، سنفاجأ بأنها مصنفة حسب “مقياس راسل” لتصنيف العواطف بأنها ذات إثارة عالية بالرغم من كونها عاطفة سلبية حسب هذا المعيار الذي يعتمد على إحداثيات العاطفة في مستوي مقسوم بمحورين متعامدين أحدهما لمقدار الإثارة في العاطفة( عالية-منخفضة) ، و الآخر لقطبية العاطفة (سلبية-إيجابية). أي أن مشاعر الحزن يرافقها نوع من الإثارة الخفية، و هذا ما يفسر الجاذبية المستغربة لهذا النوع من الموسيقا حتى بالنسبة لأشخاص ليس لديهم أسباب تبرر الحزن.
و إذا سلمنا بارتباط عاطفة الحزن بألم الحرمان من تلبية الحاجات الأساسية للكائن البشري، فإننا لا بد من أن نستنتج أنها من أقدم العواطف الواضحة على الإطلاق، لأنها ترافقت مع أولى مشاعر الإنسان البدائي الذي كان يخوض حرب البقاء في مواجهة الطبيعة. و هنا بالضبط نلاحظ أن بداية الوعي الإنساني للعواطف و تصنيفها ولو بشكل مبهم قد بدأ مع أو محاولاته للدفع بمشاعر الحزن بعيداً و استبدالها بمشاعر أخرى مرتبطة بالشبع و الأمان و الوفرة. بعبارة أخرى: عاطفة الحزن كان المحفز الأساسي للتطور و الارتقاء باعتبارها معادلاً نفسياً للألم الجسدي، و كلاهما يلعبان دور التحفيز لتحسين شروط العيش ضمن الصراع الأساسي على البقاء. و هنا لا يمكن فصل الارتباط بين صناعة الحضارة عن إدراك الإنسان للعواطف و تمييزها و تصنيفها و من ثم تمجيدها في وسائل التعبير الفنية لديه كالموسيقا و الشعر. و من الطبيعي أن السبَّاق في صناعة الحضارة،سيكون السبَّاق إلى تصنيف العواطف و تمييزها و من ثم تمجيدها و التعبير عنها في إنتاجه الثقافي. و هو ما حدث بتسلسل زمني مرتبط بأسبقية نشوء الحضارات، بحيث كانت حضارة بلاد ما بين النهرين و الساحل الشرقي للمتوسط من بين أقدم الحضارات، ثم ظهرت الحضارات الأخرى كالحضارة اليونانية القديمة، و حضارات الشرق الأقصى و الهند، و حضارة الفراعنة ، و بقية المواقع الحضارية في أفريقيا و أمريكا الجنوبية.
و لكن التطور التاريخي لكل منطقة من هذه المناطق اتخذ مساراً مختلفاً يعبر عن هويته الثقافية، و بالتالي فإن التعبير عن الحزن في الأغنية العراقية وجد له أرضاً خصبة في التطورات و الأحداث التي صنعت تاريخ منطقة كانت فيها الموسيقا و الشعر متطورة بشكل كبير جداً بالمقارنة مع بقية البؤر الحضارية في العالم، و لذلك فليس من المستغرب أن تكون أول حفلة موسيقية تقوم بها فرقة موسيقية أمام جمهور يجلس في مكان مخصص لذلك، كانت في بلاد ما بين النهرين في الألف الرابع قبل الميلاد حسب أحدث الدراسات التاريخية.
و هنا يجب أن نتساءل: من أين جاء التفسير الشائع لحزن الأغنية العراقية؟ و من له المصلحة في ربط الحزن بتاريخ دموي متخلف و كارثي، بدل ربطه بالسبق الحضاري لشعوب هذه المنطقة؟
خصوصاً أن نفس الجهات قامت بربط الميل إلى الحزن الجارف الذي طغى على الفن الإنكليزي في العصر الإليزابيثي برقي و تطور الإمبراطورية البريطانية العظمى، حيث بدأت مشكلات الإنسان تأخذ طابعاً أكثر رقياً يتناسب مع الوفرة و الدعة و الأمان الذي ساد الإمبراطورية في ذلك العصر.
ختاماً كيف يمكن لنا تفسير الحزن في الأغنية العراقية بالتاريخ الدموي و العنف و التخلف و الوحشية ، ثم نعود لنفسر نفس الحزن في العصر الإليزابيثي بالحضارة و التطور و الوفرة و الرقي؟
على الأرجح، فإن التفسير مرتبط بشكل ما “بتهويد” مقصود للمعرفة ( نسبة لكتاب تهويد المعرفة لممدوح عداون) يهدف إلى نسف أي هوية حضارية لشعوب هذه المنطقة لصالح مجموعات بشرية أخرى ذات مصلحة في ذلك.