حرية الصحافة المزعومة.. سيفها قد يقطع يديك

16 ديسمبر 2023

يا لسحر كلمة الحرية، يا لها من وصفةٍ عبقريةٍ لما نقول وما نكتب، ولكنها في حقيقة الأمر، الجزء الأصعب والأكثر مخاتلة من فكرة الصحافة برمتها، الصحافة التي هي جوهر وتكثيف للديمقراطية، الديمقراطية المخاتلة بدورها والزلقة بكل تأكيد.

حسنٌ، قامت الصحافة لنقل الأخبار الحقيقية تماماً إلى الناس، علينا نقل الحقيقة بأي لغة و”تون” ومعالجة، وعلينا نقلها كاملة لجميع الناس على اختلاف مشاربهم؟ ألم تبدأ المخاتلة من هنا؟!

لقد طالبت الجمعيات والمنظمات الحقوقية بحرية التعبير على الدوام، هل حقاً هنالك حرية في التعبير متساوية وعادلة بين الجميع؟ أم أننا لدينا “باكيج” و”روشيته” و”جلاسور” لكل جغرافية ولكل مناسبة؟ هل تنفذ الدول الديمقراطية وعودها في إعطائنا حرية التعبير على مواقع التواصل؟ ألم يعلن صاحب موقع الفيس بوك أن الموقع سيتيح خطاب العنف الموجه ضد الروس خلال الحرب الروسية الأوكرانية، ما يعني منع الروس من التعبير وكم أفواههم؟ هل تُسمع نداءات دول العالم الثالث وهل يُسمح لهم بالتعبير عن استيائهم في نهب مناجم الذهب في أفريقيا؟ حقول النفط في الشرق الأوسط؟ أشجار الشوكولا؟ أشجار البن؟ حرب غزة؟ قطعاً لا!

إن الدلالات العاطفية للحرية تمنحها مناخاً هائلاً من الحماس والتدافع، ولكن هل إفشاء أسرار الدولة حرية؟ هل تسريب الأفلام الإباحية للأطفال حرية؟ إن المقارنة والمقاربة بين أخلاقيات الصحافة وحريتها مشروع ولكنه زلق وخطير، لا يمكننا أن نعبر بالمطلق ولا أن نصف أنفسنا بالأخلاقيين على طول الخط. إذ أن كل حادثة تلدُ مجرياتها وضوابطها. ولعل في قول أوليفر هولمز ما يشير إلى أول ملامح التعبير المشروع إذ قال: “حرية التعبير لا تشمل أن يصيح أحدهم كاذباً في مسرحٍ مكتظ: حريق.. حريق”!، هذه الحرية ستسبب بالتدافع والحوادث والخطر، في الصحافة كل يوم يصيح أحدهم حريق حريق، وذلك ليواري سوءة حريق آخر!

وفي هذا السياق، لا بد لي من ذكر الجملة العبقرية التي نطقها القاضي هولمز 1919 وكانت في حكمه على قضية طباعة وتوزيع 15000 نشرة مناهضة للحرب، جاء في متنها: “الحرب خطأٌ فادحٌ ضد الإنسانية لمصلحة قلَّة مختارة في وول ستريت”! هذه العبارة دقيقة جداً، لكن هولمز في آخر الأمر منع حرية التعبير أو على الأقل أطّرها، فقد ارتأى – وهو موظف في الحكومة – أن كل تعبير يضعف أركان الدولة أو يقوّض جهود الحرب هو خطرٌ محدق!

يروي نايجل ووربيرتن صاحب كتاب مقدمة في الحرية: “إن الفيلسوف توماس سكانلون طرح طرحاً تخيلياً جاء فيه: ماذا تقول في مخترع كاره للبشر اكتشف طريقة سهلة لإعداد غاز أعصاب ذي فعالية عالية من منتجات محلية يسهل العثور عليها؟ بالتأكيد في هذا الموقف سيكون من الصائب ردعه عن إعطاء الوصفة لأحد أو نشرها بأي طريقة أخرى، قليل جداً سيتولى الدفاع عن حقّه في حرية الكلام فيما يتعلق باختراعه المميت هذا، وإن كان ما طرحه سكانلون هو طرح غير موجود، فقد وقعت حادثة حقيقية في أمريكا عام 1983، العام الذي نشر فيه كتاب: “القاتل المأجور: دليلٌ فني للقتلة المأجورين المستقلين”، يقول ووربيرتن: لقد شرح هذا الكتاب طرائق القتل بحذر والتخلص من الجثث، وزادت شهرة الكتاب عندما استأجر لورنس هورن قاتلاً مأجوراً لقتل ابنه وزوجته السابقة وممرضة ابنه من أجل الحصول على أموال التأمين، وقد اتبع القاتل حرفيّاً التعليمات الواردة في الكتاب عن كيفية جعل المسدس صعب التعقب، واستخدام كاتم صوت منزلي الصنع، وإطلاق النار من مسافة قريبة، وما إلى ذلك. حُكم على القاتل بالإعدام، وعلى هورن بالسجن مدى الحياة، ورُفعت دعوى قضائية ضد ناشري الكتاب.

قد يعجبك ايضا