3 سبتمبر 2023
علي بدر – كاتب وروائي عراقي
بمناسبة ترجمة مزرعة الحيوان لجورج أورويل إلى العامية المصرية بعزبة البهايم.
أول دعوة مرموقة طرحها مثقف عربي لاستبدال الفصحى بالعامية هو فارس نمر في العام 1888 عندما اصدر فيلهم سبيتا كتابا عن العامية المصرية داعيا الى ترك الفصحى والكتابة باللاتينية، انخرط فارس نمر في الدفاع عن فكرة سبيتا بقوة، أيده يعقوب صروف، وهاجمهما رشيد رضا بمقالتين مشهورتين. في الاربعينيات انخرط عبد العزيز فهمي في نقاش مماثل في القاهرة أيده أنيس فريحة في لبنان، ونيقولا يوسف وحمدي ابراهيم الملا. بعدها جاءت الدعوة الفينيقية من مي غصن وسعيد عقل حينها كتب يارا ويردلي، ثم برز نقاش حاد بين أعضاء مجلة شعر حيث تفرد يوسف الخال بالدعوة العملية للعامية وكتب بها مقالات نقدية، عارضها آدونيس وشوقي أبو شقرا، وانفرط عقد مجلة شعر لهذا السبب. وهم ما أطلقوا عليه حاجز اللغة.
بعض هذه الدعوات دون شك أيديولوجية تخص مكانة الأقليات داخل الجماعة العربية المسلمة ولكن بعضها الآخر هي نقاشات عقلية ثقافية محضة، نقاشات امتدت لسنوات، المضحك كلها أديرت بالعربية الفصحى وليس بالعامية. ثمة دعوات تصل الى القرن السادس عشر، مدرسة باسيلوس للعامية في روما. دعوات أخرى طرحها مستشرقون مرموقون مثل سيمون جارجي، كارل بروكمان، ويليام ويكليكس “أقل مكانة” كارلو وندنبرك، جاك بريسينيه، جاك بيرك الذي كتب كتابه المهم اللغات العربية ايحاء بأن اللهجات العربية هي لغات.
كل هذه الحركات والدعوات فشلت لا لأسباب قومية كما يدعي القوميون ولا لأسباب دينية كما يدعي الدينيون، انما لديناميكية وحيوية اللغة العربية الفصحى. المقاربة مع اللاتينية كلغة دينية وانحطاطها الى اللهجات الرومانية مثل الفرنسية والاسبانية والإيطالية مقاربة خاطئة. اللاتينية لغة دينية وتوقفت عند حدود الشرع في البحث في الكتب المقدسة، اللغة العربية لغة حضارة كاملة لم ولن تكن لغة دينية وان نزل بها القرآن. كتب بها مسيحيون أناشيدهم الطقسية، كتب بها أحبار اليهود قصصهم الروحية. جمعت شعراء الخمرة والمتصوفة والزنادقة والملعونيين بنفس الحرف، وتركت لنا آلاف المخطوطات في الادب الايروتيكي كما عدها صلاح الدين المنجد.
عاشت العامية إلى جوارها ولم تقهرها ولم تحل محلها، طوال تاريخها استخدمت العامية استخدامات عملية وعاطفية وأعانت الفصحى ودخلت عليها حتى في الآداب. لكنها لم تقهرها أو تحل محلها. لقد ضاقت العامية على الفكر الفلسفي والعمق والشعرية العالية والعلوم، وارتضت لنفسها مكانا منزويا، وبقيت الدعوات كما جاءت أول مرة ويقال في القرن السادس عشر حينما تأسست مدرسة باسليوس في روما للغات العربية المحكية والى اليوم صخباً ما أن يظهر حتى ينطفي.