4 نوفمبر 2023
حسان الحديثي – كاتب وناقد من العراق
قالت العرب إن المستحيلات ثلاثة: الغُولُ، والعنقاءُ، والخل الوفي.
فأما الأول والثاني فلا وجود لهما وأنهما محض أساطير تصلح للخيال دون الواقع، وأما الخلُّ الوفيِّ فهو الصاحب الذي يؤثِرُ صاحبَه على نفسه في كل موقف وفي كل حين، وقد كذّب القرآن هذا الزعم فقال: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ. فهم موجودون بدليل الآية.
ولكن الاستحالة -في القول الآنف- ليست في وجود الخلِّ ولا في الوفاء، وانما في دوامهما، ذلك أن نفوس البشر تتقلب وأحوال الناس تتبدل، فتتغير الطباع بتغيرهما، ولا يوجد إنسان ألا جرّب وترك، وعاشر وانقلب، إلا الشاذ المنفرد والقليل النادر.
ولعل المرء يجد من صاحبه الإيثار في حين من الدهر وحال من الدنيا، ولكن ذلك لا يعني الدوام والاستمرار، ولعل الصاحب يجد في قابل الأيام أن الرحِمَ أولى من الصاحب بالايثار فيميل إلى رحِمِه ويترك صاحبه فيُعذر، غير ان المجبول على المروءة والإثرة لن يتبدل.
وخير الخلّان الناصح الواضح، من إذا استنفرتَ نخوتَه فز، وإن حككتَ جرحَه نز.
ويحدث أن تضيق الأرض على ابن آدم فلا يدري لأي جهة يلتفت، وأي باب يطرق، وهذا وارد كثير، ولكن الأعظم حين تشتد حتى تضيق عليه نفسه، فتُغلّق أبواب الحياة وسبل العيش فيكون الموت اهونَ الف مرة عليه من حياته، وهذا اشد ما يمر به ابن آدم.
وقد ذكر أبو تمام في حماسته العظيمة أبياتاً تقول:
سَأَشكُرُ عَمراً إِن تَراخَتْ منيّتي أَيادِيَ لَم تُمنَن وَإِن هي جَلّتِ
فَتىً غَير مَحجوب الغنى عَن صَديقِه وَلا مُظهِرُ الشَّكوى إِذا النَّعل زَلّتِ
رَأى خلّتي من حَيثُ يَخفى مَكانها فَكانَت قَذى عَينَيهِ حَتّى تَجَلّتِ
ولم اقرأ اجمل من قوله “تراخت منيتي” كناية عن طول العمر، والتراخي هو الابطاء والتأجيل، وقوله: لَم تُمنَن وَإِن هي جَلّت، اي لم تذكر الفضل وان كان عظيماً.
كما لم اقرأ كِنَايَة عَن السماحة وكرم النفس اجمل من قوله “فَتىً غَير مَحجوب الغنى عَن صَديقِه” ولا كناية عن الشدَّة وَالْحَاجة اجمل من قوله “إِذا النَّعْل زلّتِ”
ولكن الجمال كلُّه في قوله:
رَأى خلّتي من حَيثُ يَخفى مَكانها
فَكانَت قَذى عَينَيهِ حَتّى تَجَلّتِ
والخَلَّة بفتح الخاء هي العوز والحاجة، وقوله يخفى مكانُها، أي غير بائنة للناس، والقذى هو ما يقع في العين من وسخ ونحوه يمنع الإبصار والرؤية. تقول الخنساء في رثاء أخويها:
قـذىً بعيـنكِ أمْ بالعـينِ عُـوَّارُ
أمْ أقفرتْ إذْ خلتْ منْ اهلهَا الدَّار
يقول: صارت حاجتي كالقذى في عين صاحبي حتى انجلت، كناية عن فراسة الخليل بحال خليله ورؤية ما يحل به وإن خفي أمره عن الناس وإن اصابته فاقةٌ وحاجة.