30 ديسمبر 2023
“أنت إذاً تنقبين في سوريا، أليس كذلك؟ أخبريني عن الأمر، كيف تعيشين؟ في خيمة؟ الخ الخ.. هذا هو السؤال الذي يطرحه الناس على علم الآثار في الماضي: تعال قل لي كيف عشت؟”، جاء هذا المقتطف من مقدمة مذكرات الروائية العبقرية أجاثا كريستي في سوريا والعراق والتي سميت بذات الاسم: “تعال قل لي كيف عشت”.
كلما أنهيت روايةً من روايات الكاتبة الإنجليزية أجاثا كريستي Agatha Christie يراودني نفس الشعور دائماً، ما كل هذا الثراء المعرفي والخيال المرعب وكيف تجتمع كل تلك التفاصيل المهملة لتصنع آخر الأمر “بازل” روائي عجيب؟ وفي حقيقة الأمر عرفت متأخراً أنها عاشت فترة طويلة في الشرق إذ كنت أعتقد أن زياراتها هي مجرد اطلاع وتوثيق كما يفعل كل كاتب. ويعود سبب هذا على ما أعتقد إلى طغيان شهرة رواياتها على شهرة صاحبتها بالأصل، فلم تترك لنا حكاياها ما يجعلنا نتساءل عن سيرتها الذاتية كثيراً.
حياتها ومعاشها
ولدت أجاثا كريستي عام 1890 وعاشت رحلة حياتها الثرية إلى عمر السادسة والثمانين، حيث توفيت عام 1976، عرفت بأنها كاتبة الجريمة الأولى في التاريخ وأشهر من كتب رواية الجريمة من كل كتاب العالم على مر العصور إذ ترجمت أعمالها لأكثر من مئة لغة وباعت أكثر من مليار نسخة!
عاشت أجاثا في بلدة إنجليزية هادئة “توركوي” مع أبيها الأمريكي وأمها الإنجليزية التي تعزو إليها أجاثا سبب نبوغها وتطور موهبتها، تلك الموهبة التي تصف أجاثا شرارتها الأولى بقولها: “ذات يوم أصبت ببرد شديد ألزمني الفراش فقالت لي أمي: خير لكِ أن تقطعي الوقت بكتابة قصة قصيرة وأنت في فراشك. فأجبتها: ولكني لا أعرف، فقالت: لا تقولي لا أعرف، ثم حاولتُ ووجدت متعةً في المحاولة”.
نشرت أجاثا أول رواياتها وهي في منتصف العشرينيات، والتي كتبتتها وهي متطوعة في مستشفى تابع للصليب الأحمر إبان الحرب العالمية الأولى”. إلا أن شهرتها بدأت عام 1920 مع روايتها “قضية ستايلز الغامضة” التي نشرت على حلقات في أمريكا ومن هنا كانت انطلاقاتها الفعلية، إذ أوضحت تلك الرواية قدرة جلية على خلق حبكةٍ في منتهى الغموض والدقة لتصنع جريمة فيها ملابسات مثيرة. تلك الرواية التي اعتمد عليها المسرح والسينما والدراما التلفزيونية في عشرات الأعمال حول العالم.
بعد تلقي أجاثا العلوم الأولية في المنزل أسوةً بالعائلات الميسورة آنذاك، التحقت بمدرسة في باريس عاصمة الجمال والفن حيث تعلمت الموسيقا والفنون التشكيلية إلا أنها لم تحب أحداً من فناني عصر النهضة وتلك أولى علامات فرادتها وغرابة مخيلتها.
اكتسبت أجاثا لقبها الذي رافقها طيلة حياتها من زوجها الأول “أرتشي كريستي” الذي اختارته من بين عشرات الخاطبين ممن تقدموا لها، وكان عسكري في الجيش البريطاني. وقد أنجبت منه ابنتها “روزلند”. إلا أن زواجها انهار بعد فترة بسبب مواصلة خياناته لها وإيذائها، ولكن ظلت على هذا الاسم بقية حياتها وهو سبب غريب ككل ما تفعله أجاثا..
الشرق له مداخل عدة كلها بلا مخرج!
كان الشرق عالماً غامضاَ ومغرياً بالاكتشاف لكل الأوروبيين فكيف لمن هو مثل أجاثا؟ فمن شغفها بالشرق اشتركت مع فرق تنقيبية كانت بين سوريا والعراق 1930، وتزوجت من عالم الآثار المعروف “ماكس مالوان” وعاشت معه في سوريا والعراق عندما كان يقوم بأبحاثه، وعلى الرغم من أنها كانت أكبر منه بـ13 عاماً، إذ كان عمرها يومذاك 39 سنة بينما كان عمره 26 سنة؛ إلا أنهما شكلا زوجين رائعين في عالم الإبداع.
أتاح لها عمل زوجها “مالوان” أن تتزود بما تريد من الشرق إذ زارت مصر وإيران والعراق وسوريا والأردن وتركيا وقد تسرب هذا السحر إلى رواياتها وعناوينها، كما أثرى هذا الاستقرار حياتها الأدبية فأصبحت أكثر إنتاجاً وغزارة. حتى وأن “مالوان” زوجها ذكر في مذكراته كيف كان يهيئ فرص الكتابة والإنتاج لزوجته التي ترافقه في مواقع التنقيب، إذ قال: “شيدنا لأجاثا حجرةً صغيرة في نهاية البيت، كانت تجلس فيها من الصباح وتكتب رواياتها بسرعة وتطبعها بالآلة الكاتبة مباشرة، وقد ألَّفت ما يزيد على ست روايات بتلك الطريقة موسماً بعد آخر”.
لاحقاً، انضمت كريستي رسمياً إلى بعثة التنقيب البريطانية في نينوى شمال العراق ثمَّ إلى بعثة تلّ الأربجية عام 1932 برئاسة زوجها. والأربجية قرية شهدت بدايات العصر الحجري المعدني، وقد ساعدت أجاثا البعثات بكل جهد وحيوية إلى جانب كتابتها، وذلك في إصلاح العاجيات ووضع الفهارس لأنواع اللقى والأثريات، كما ساعدت في التصوير الفوتوغرافي للبعثة.
ومن الجدير ذكره أن أجاثا كريستي قد أقامت شهر العسل في قرية عين العروس على ضفاف نهر البليخ وسكنت فندق “بارون” الشهير في حلب، وهنالك كتبت عملها الشهير “جريمة في قطار الشرق السريع”، وإلى وقت قريب كان فندق بارون يفخر بمكان جلوس أجاثها وركنها المفضل ويعلق صورتها على جداره ضمن سلسلة من مشاهير العالم ممن زاروه مثل: الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والملك فيصل الهاشمي ولورانس العرب وجمال عبدالناصر وشارل ديغول ويوري غاغارين وغيرهم.
لقد كان للشرق تأثيره الكبير على روايات كريستي وقصصها، ومن ذلك قصة “لؤلؤة الشمس” تتحدث فيه عن زيارتها إلى البتراء، ورواية “موعد مع الموت” الذي تصف فيه روعة بناء المسجد الأقصى، وقصة “نجمة فوق بيت لحم”، وفي مصر رواية “موت على النيل” ورواية “الموت يأتي في النهاية” ومسرحية “أخناتون” التي كتبتها بعد زيارة الأقصر، ولم تكن لتكتبها لولا أن استعانت بخبرتها في علم الآثار التي ساعدتها على فكّ الرموز وبناء الشخصيات درامياً.
حياتها المثيرة التي تشبهها
لقد كانت حياة أجاثا كريستي شبيهة بها دون أدنى شك، مثيرة وحافلة بالغموض، ولكنها ظلت تكتب حتى آخر عمرها، ولك أن تتخيل أنه عند بلوغها عامها الخامس والثمانين كانت قد كتبت 85 كتاباً بالتوازي، وكانت إلى جانب أنها أهم روائيات الجريمة في التاريخ تمتلك حساً فكاهياً منقطع النظير وبديهةً خاصةً وحادة، وهذا قد يفسر نجاح زواجها وحب زوجها لها حتى آخر عمرها، وكانت تجيب من يسألها عن حب زوجها رغم تقدمها في السن وهو الذي يصغرها بسنوات كثيرة: “إنه أمر طبيعي، فزوجي عالم آثار يعشق الآثار القديمة!”.
أوردت جانيت مورغان التي كتبت سيرة حياة الكاتبة أن أجاثا اختفت في عام 1926 لمدة عشرة أيام، وذكرت أن الشعب البريطاني شارك كلٌ بدوره في البحث عنها، وحتى اليوم ما يزال سر هذا الاختفاء والمرض غامضاً، وإن رجح الكثير أن تأثرها بفقدان والدتها قد يكون سبباً، إلا أن مورغان أكدت أن السبب هو صدمة عاطفية كبيرة، كما أنها أخفت تفاصيل حياتها عن الإعلام ولم تتكلم عن نكساتها العاطفية وطلاقها، ويشاع أنها فقدت ذاكرتها ذات مرة فلم تكن تعرف من هي وإلى أين تريد الذهاب، حتى أنها كانت تسأل الناس من أكون أنا؟ وكان من يعرفها يرشدها لبيتها.